هكذا يفكر نصرالله بصوت عالٍ

… في الجغرافيا، يقيم في مكانٍ ما من أمكنة كثيرة جداً… قليلون جداً مَن يعرفونها. كأنه يسكن السرّ بذاته لشدّة تحوّطه. فإجراءات إقامته المتحرّكة، كتحرّكه الدائم، تخضع لـ «جيش» من التدابير غير المرئية، ولنظامٍ «حديدي» يطال كل شاردة وواردة… اللقاءات في البيت «الجوال»، الجولات على الارض وعلى… الشاشات، المأكل والمشرب والنوم واللا نوم، الرياضة البدنية في ناديه الخاص، وما تيسّر من خصوصياته.

… في السياسة، يقيم فوق «ترسانة» متعددة الجبهات، يختلط فيها الماضي البعيد بالاستراتيجيا العابرة للخطوط الحمر، المشرَّعة على خطوط النار. في لبنان الصعب قال يوماً «الامر لي». ومع اسرائيل استعدّ لحربٍ كأنها… «آخر المطاف»، وفي سورية يقاتل نيابةً عن التاريخ كشريكٍ في خرائط الجغرافيا وأحلافها في الشرق المفتوح على المجازفات الكبرى والحروب التي لا تنتهي… ولن تنتهي.

… في يومياته المفتوحة على الليل والنهار «يداوم» على رأس «ماكينات» لا تهدأ على الدوام. كل شيء يبدأ من هنا وكل شيء ينتهي هنا… اجتماعاتٌ مصغّرة وتقارير لا تُعدّ ولا تُحصى… يحوط نفسه بفريق عمل ضخم يَرصد له كل ما يُكتب ويُبث في وسائل الاعلام في المنطقة وعنها ويكاد ان يعرف عن اسرائيل ما لا تعرفه اسرائيل عن نفسها.

… إنه الامين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله، المقيم في عين الحدَث منذ ثلاثة عقود، كواحدٍ من صنّاعه في عيون مؤيديه وأعدائه على حد سواء… كيف يفكّر الرجل، الذي يضاهي حجمه أدوار دول، كلاعب فوق الحبل المشدود الممتدّ من بيروت الى واشنطن مروراً بدمشق وباريس وأنقرة وتل ابيب وموسكو والرياض ولندن والدوحة وسواها من العواصم «ذات الصلة».

ماذا يقول السيد نصر الله، المقيم في مكانٍ ما وفوق «الخطوط الحمر»، عن لبنان العائد من حربٍ لم يخرج منها تماماً، وربما العائد الى حربٍ لن يخرج منها ابداً… لبنان الطوائف والمذاهب والنفط الموعود. وماذا يقول عن سورية و»حرب الامم» فيها وعليها، وعن النظام والمعارضة، وعن السيء والأسوأ في الصراع ونتائجه. ماذا يقول عن اسرائيل وحربها المحتملة، وماذا يقول لاسرائيل التي توعّدها مراراً وتكراراً؟
في «المكان ما» يجالس السيد نصر الله زائريه من الوزراء والموفدين الرسميين وقادة الأحزاب من كل أنحاء «الأمة» ومن بلاد اخرى… آخرهم، وليس آخر مَن ألتقاه، كان موفد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، الذي لم يُخْفِ «سعادته» باللقاء «المثمر» في الـ «مكان ما» وبالالتقاء في… معركة سورية.

عندما يفكّر الامين العام لـ «حزب الله» بصوت عالٍ، يقول في مجالسه الخاصة، او بالأحرى، في «مجلسه الخاص» ان «ما من خيارات جيّدة او مثالية لحلّ الازمة في سورية وللحرب الدولية الدائرة على أراضيها. ولن تكون هناك نتائج ايجابية لأيّ طرف مهما كانت النتائج التي ستؤول اليها الحرب حتى ولو حطت رحالها غداً». وهو يردد: «ان الهوّة اصبحت عميقة جداً بين أطراف النزاع، سياسياً ومذهبياً، بين السنّة والشيعة والكرد والعلويين، ولن يكون التخلص من هذه الهوة بالامر اليسير، وخصوصاً ان أطراف النزاع أعادوا الصراع الى ما قبل 1400 عام».

ويرى السيد نصر الله ان «التنبيه من أخطار الحرب في سورية الهدف منه حثّ أطراف النزاع في لبنان على وعي وإدراك ما أصبحت عليه الساحة السورية لان مصير المسلمين في لبنان لن يكون أفضل حالاً اذا امتدّت نار الطائفية الى هذا البلد الصغير الذي لم يتعاف بعد من ذيول الحرب الاهلية ونتائجها ومن نتائج حروب اسرائيل التي تستمرّ في تهديدها. فها هي الحرب الطائفية – المذهبية تقرع بطبولها على سلسلة الجبال الشرقية لتهدّد بلدنا، الشديد التأثر لطبيعته، بكل ما يحدث حوله وفي محيطه العربي والغربي».

السيد، الهادئ في مجالسه على عكس نبرته الخطابية التي تُميّز إطلالاته على الجمهور، يقارب الوضع في لبنان من زوايا توازي بين الحالي المأزوم، والاستراتيجي في سياق الصراع العام في المنطقة. ويقول: «لبنان يَعبر الى مرحلة جديدة من بوّابة النفط والغاز. ومع الدخول من هذا الباب تتجه البلاد نحو الازدهار والثروة وتحسين الوضع الحياتي للمواطنين والإنهاض بالبنى التحتية على المستوى الذي ترقى اليه الدول المتحضّرة، وسيأخذ لبنان مكانته في نادي الدول المنتجة للنفط، وتالياً ففي الإمكان ان يكون هذا التحول باباً للنعمة او باباً للنقمة».

ولان الشيء بالشيء يُذكر، يتوقف السيد نصر الله عند الجانب النفطي من الصراع الدائر في سورية الآن: «قرر الغرب فرض حصار اقتصادي على النظام في سورية ومنع استيراد ما تحتاجه او تصدير ما تنتجه وهو يتجه الآن – اي الغرب – الى رفع الحظر عن تصدير النفط من سورية لان نحو 70 في المئة من الثروة النفطية اصبحت تحت سيطرة المعارضة، وها هي الدول الغربية تفتح أنابيبها لتلقي النفط السوري المعارض لمبادلته بالسلاح الذي تنتجه مصانعها المصابة بالركود، غير آبهةٍ بنتائج القتل والدمار كحصيلة لهذه المبادلة. هكذا فعل الغرب في ليبيا اخيراً وفي الكويت والعراق سابقاً. تدمير البلاد العربية والاسلامية بالسلاح الغربي ليعاد بناؤها عبر الشركات الغربية ايضاً، فيدفع العرب والمسلمون فواتير التدمير والتعمير».

ويتحدّث السيد نصرالله عن «صراع أمم» في سورية «على الصعيد العربي والاسلامي. ها هي قطر والسعودية وتركيا والاردن والامارات ولبنان والعراق وفلسطين. وعلى الصعيد الغربي ها هي روسيا واميركا وفرنسا وبريطانيا والمانيا واسرائيل وغيرهم… كلهم متورطون في الحرب في سورية. ولهذا أسميتُ ما يجري على أرضها بحرب الامم… حرب كارثية بكل معنى الكلمة، ولعل قضية النازحين واحدة من نتائجها. فها هم غزوا القرى السورية التي ما زالت آمنة وشُرّدوا في لبنان والاردن وتركيا ليشكلوا أزمة مشابهة لما حل بالشعب الفلسطيني. ومن الطبيعي ان يشكل هذا التسونامي الانساني أزمة من نوع مختلف في دول الجوار لانها غير مهيأة لمجابهة هذا الوضع الانساني الصعب وما يمكن ان ينتج عنه من ضغط اقتصادي. ومن المستحيل تقدير الكلفة الحقيقية لهذه الازمة، كما هو الامر بالنسبة الى نتائج تدمير البنى التحتية الذي أصاب سورية».

«كل الخيارات اصبحت مفتوحة في سورية، وكل الخيارات سيئة، ونتائج الحرب اسوأ». يقول الامين العام لـ «حزب الله»، الذي يرى ان «المعارضة السورية منقسمة على نفسها بين علمانية وإسلامية وتكفيرية، وليس هناك ما يمثّل او يجمع هذه المعارضة على برنامج موحّد باعتراف راعيها العربي والغربي، مما يتسبب بتعقيد مسألة المفاوضات المحتملة في المستقبل وبتطويل أمد الحرب. ما من أحد يمكنه التكهن بتاريخ انتهاء الحرب او مَن سيبقى على قيد الحياة من قادة المعارضة او قادة النظام، فكل الخيارات أصبحت مفتوحة وهي كلها خيارات سيئة، ونتائج الحرب أسوأ بالنسبة الى المعارضة والى النظام، ولن يكون من السهل إعادة بناء سورية على المستويات الانسانية والمادية والنفسية والمذهبية. لقطر فئة تابعة لها، وللسعودية فئة اخرى، هناك موالون لخط الممانعة التي تقودها ايران وحزب الله، وهناك مَن تدرّبهم الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لاستلام الحكم. وما من احد يعير ادنى اهتمام للفئة التي تريد إنهاء الحرب وتقريب وجهات النظر حول طاولة مفاوضات تعيد بناء السلطة في سورية، على غرار ما حصل في لبنان مع اتفاق الطائف عام 1989، والذي كان بداية للاصلاح السياسي».

لذا فان السيد نصر الله يعتقد ان «الحلّ الوحيد في سورية هو ان يجلس جميع الاطراف على طاولة المفاوضات، وان يتخلوا عن الخارج ونفوذه، وان لا ينتظروا قرارات بوتين – اوباما او ما يخرج من أروقة الامم المتحدة. الحوار أفضل وسيلة لوقف الفتنة والقضاء عليها قبل ان تحرق أصابع المتورطين دون تمييز».

اما بالنسبة الى اسرائيل، فإن السيد نصر الله، «القائد العام» لجيشٍ مجهول العدد ولترسانة صاروخية تضاهي ما تملكه الدول، يشرف على تقويم الموقف لحظة بلحظة، وهو استخلص «ان لا مصلحة لاسرائيل بقلب الدفّة عبر حرب شاملة لانها تدرك ان حزب الله سيكون جزءاً لا يتجزأ من الردّ وخصوصاً ان سورية ستُستخدم كممرّ لإدخال اسرائيل قواتها الى لبنان، اضافة الى ان لاسرائيل مصلحة في استمرار الصراع في سورية لسنوات عدة يقضي خلالها السوريون بعضهم على بعض. وها هي دوائر القرار في اسرائيل تخطط لاقتطاع أجزاء من سورية تحت عناوين مختلفة قاعدتها الاساسية الإفادة من عدم وجود قوة موحّدة سوريّة بل قوى منهكة لن تستطيع الوقوف امام اسرائيل اذا أرادت قضم الاراضي السورية على حدودها. ومن الطبيعي ان يكون التدخل الاسرائيلي في سورية، أمنياً وعسكرياً، محدوداً كي لا تتسبّب برد فعل قوي ضدها… تغتال شخصيات هنا، وتدمر بنى تحتية هناك، تغير على ترسانة عسكرية في هذه الناحية او تلك، فيما الداخل السوري منشغل بنفسه ومشتت».
ويستبعد السيّد ان تكون لاسرائيل نية في الدخول الى لبنان من جنوبه «لانها تدرك تماماً بأن مقبرة تنتظرها، والقبة الحديدية التي تتباهى بها أثبتت انها أوهن من بيت العنكبوت».

نصر الله، الذي ترأس اخيراً أكثر من اجتماع لـ «المجلس الجهادي» يقول: «ان حزب الله احتفظ بتنسيق عالٍ وعلى كل الصعد الأمنية والعسكرية والاستراتيجية مع سورية، واسرائيل تعتقد انها اذا أغارت على مواقع ومستودعات استراتيجية فإنها تغيّر من قدرات المقاومة، فهذا خطأ تقديري عالٍ واستعراض فولكلوري لان مخزون المقاومة في لبنان قد امتلأ بكل ما تحتاجه، وأيّ اعتقاد غير ذلك يصبّ في التقديرات الفقيرة الخاطئة».
السيد، الذي يختار كلماته بعناية فائقة، يضيف قائلاً: «لو أغارت الطائرات الاسرائيلية على ايّ من مخازن حزب الله في لبنان فلكان الردّ فورياً، والحرب ستكون شاملة والخير في ما وقع (كلمة استعملها الامام الخميني عندما لجأت اليه مجموعة من اللبنانيين ابان اجتياح اسرائيل للبنان في العام 1982، وطلبت منه المساعدة، فكانت ولادة حزب الله)، ومن المعتقد ان الغارة الاسرائيلية على سورية كان مقدَّراً لها ان تقع في ربيع 2010 وتأجّلت».

لا يخفي السيد نصر الله انه مهما جرى ويجري فإن فلسطين هي بيت القصيد، ويوحي بأن الحلفاء، كل الحلفاء، والمعنيين بالقضية الفلسطينية عاودوا تقويم رؤيتهم في شأن ما يجري في سورية إنطلاقاً من فلسطين – البوصلة، ويقول «ان اسرائيل واميركا تضربان محور الممانعة كمقدمة لتصفية القضية الفلسطينية. ولم يتأخر إقتراح العرب مبادلة اراضي الـ 67، والذي لم تتلقفه اسرائيل بايجابية علنية كعادتها حتى لو إرتاحت ضمنياً لأن من يدعم اصحاب القضية (الفلسطينية) يمهدون للاعتراف بحدود جديدة لاسرائيل على حساب الفلسطينيين طبعاً». ويلفت الى «انهم يتعاملون مع سورية على انها حجر العثرة في وجه تطبيق هذا المخطط، وخصوصاً انها معنية بأراض محتلة عام 67، وهذا ما لن يسمح به محور الممانعة حتى لو قبِل به العرب مجتمعون». وهو – اي السيد – يرى في «الموقف الروسي الداعم للقضية الفلسطينية ما يفسّر التوجهات الحاسمة لموسكو في حماية سيادة سورية وعدم التخلي عنها او التهاون حيال محاولات التدخل الغربي لفرض معادلات قسرية فيها».

السابق
سامي الجميل: المرحلة فيها خطران هما الفراغ الدستوري والأزمة السورية
التالي
خيارات الاسد ضيقة