السيد هاني فحص يتذكر.. من اضطهد المزارعين أصبح زعيمهم في ما بعد

"في أحد الأيام عندما كانت المحبة بيننا وبين الرئيس بري – والآن لا يوجد كره- والمحبة عادة عند السياسيين لاتدوم طويلا ..دعاني لحضور مهرجان لمزارعي التبغ في المصيلح ، فسألته عن المسؤول عن تنظيم المهرحان ، قال لي : إنه الرائد يعقوب ضاهر ..فضحكت وقصصت له حكاية الضابط الذي قال لي "فعلها قبلك معاوية.. ضحك الرئيس بري ، واففتح بها خطابه ممازحاً.. فنهض يعقوب ضاهر من بين الحضور وقال: "فضحتني يا سيّد". من كان يضطهد مزارعي التبغ أصبح زعيمهم فيما بعد!!!"
بعد مشاركته البارزة في إنتفاضة التبغ سنة 1973، اعتصاماً واعتقالاً ونضالاً، العلامة السيد هاني فحص يتذكر تلك المرحلة والأحداث بكل ما حملته من مرارة وتشويق… كان "لشؤون جنوبية" هذا اللقاء :
• ما هي المنطلقات التي دفعتكم لتأييد ومشاركة مزراعي التبغ في المطالبة والنضال من أجل نيل بعض من حقوقهم؟
كنتُ في العراق يومها، عندما قرأت في الصحف عن إضطراب أوضاع مزارعي التبغ في الجنوب،وبعد عودتي بيومين أو ثلاثة كنت أستمع إلى أنين هؤلاء وأنظر إلى عيونهم ومن بينهم والدتي، وأنا من عائلة عانت مرارة واقع تلك الزراعة والآم مزارعيها وشقائهم ، فلم أتضامن معهم فحسب، بل شعرت أنني معني بالموضوع بشكل شخصي، فأنا تعبت ورأيت وعانيت مثل كل المزارعين ، لذلك لم أشعر أني أقود المزارعين بل أنا لحقت بهم، أنا رأيت والدي في المظاهرة وأنا على سطح مبنى الريجي، هذه المظاهرة التي تبدو للمراقب منظمة بينما هي عند المزارعين كانت عفوية ..
• الحدث الاجتماعي لا يتشكل دفعة واحدة وإنما تسبقة مجموعة من الاحداث تتصل به سياقا ولا تنفصل عنه مساراً، كيف تسلسلت تلك الأحداث واتسقت في انتفاضة التبغ؟
في تلك الفترة كان لبنان تحت ضغط تغيير المرافق الانتاجية في الدولة بذهنية طبقية، فشهدت المرحلة إضراب عمال معمل غندور ومقتل العامل علي العطّار من الهرمل، وأيضاً المعلمين المصروفين من الخدمة ، حيث بادرت الدولة إلى صرفهم من الخدمة بضغط من الرئيس كامل الأسعد بتهمة الشيوعية. الجو السياسي آنذاك كان صعبا والحكومة مضغوطة جراء وجود مشروع إشكالية عميقة بين المقاومة الفلسطينية واللبنانيين والدولة ، وكان الطرفان ذاهبان إليه والحركة الوطنية تبحث عن فرصتها. في هذا التناقض البيّن لتصفي حساباتها مع الدولة اللبنانية بعناوين مطلبية، جاءت إجراءات الريجي وتميزت بقساوتها على المزارعين ولتؤكد الزبائنية والسمسرة والتمييز الطبقي بين صغار المزارعين من جهة وكبار المزارعين من جهة أخرى، فكيف الحال و المزارع الصغير غير منصف حتى قبل تلك الإجراءات الجديدة .
• كيف تجلّت البدايات لحراك مزارعي التبغ على الأرض وما هي إرهاصاته العامة وهل يصح القول إنّ اجراءات الريجي الجديدة كانت بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير؟
كانت النقابة – الموالية لكامل الأسعد – مثل بقية المؤسسات والأحزاب والجمعيات التي أتت بقرار سياسي غلّفها وأخضعها لمصالحه، وكان أعضاء النقابة من كبار المزارعين ولم يكونوا خونة بل كانوا يفتشون عن مصالحهم وكانت الدولة ممثلة "بالريجي" تحاول إرضاءهم على حساب صغار المزارعين ثم جاءت لحظة صعبة في حياة المزارعين، تجلّت بتراجع زراعة التبغ بالشمال اللبناني، فبيعت رخص كبيرة لكبار المزارعين في الجنوب بأسعار زهيدة ورخيصة ويبدو أنها مخالفة للقانون، بعدها وزعت حصص(كوتا) وبيعت لصغار المزارعين بأسعار عالية، هذا قبل سنة من حراك المزارعين – أي في العام 1972 – ما أثار ضجة لدى صغار المزارعين الذين لا يملك قسم كبير منهم أرضا لزراعتها ولا رخصة، فكان يستأجرون الرخصة ويستأجرون الأرض. النقطة الثانية في حراك مزارعي التبغ ، كانت متصلة بالنقابة الموجودة سواء ما تعلق بتقصيرها تجاه المزارعين الصغار وارتباطها الزبائني بالسلطة وبعض الممارسات غير الدقيقة.. ما دفع الثورة لتكون ضدها بما تمثل رغم وجود أعضاء جيدين..

نتعة يسارية
• هل كانت الاسباب مطلبية فقط، وكيف تجلت معاناة الفلاحين في محصولهم؟
نعم كانت هنالك وراء الثورة إضافة للإسباب المطلبية ، نتعة يسارية وأسباب سياسية – وقد ذكرتها قبل قليل – وإلا لو كانت الأسباب مطلبية فقط لما وصلت الأمور بالثورة إلى هذا الحدّ ..
فثلاثين بالمائة من المزارعين الصغار كانوا يخرجون من الموسم دون أي ليرة إضافية بعد السداد للبنك..وبعضهم يستدين بالفائدة فوق ذلك..فجاءت التنظيمات الجديدة لتكرّس هذا الواقع، فالمزارع عندما يقوم بتسليم التبغ كان عليه أن يدفع عليهم ضريبة "التالف" التي تتراوح نسبتها بين 4 لتصل إلى 10 بالمائة حتى ولو كان كل الدخان صالحا ولا عيوب َ فيه دون معايير محددة بل باستنسابية مطلقة، ولم تكن المسألة متوقفة على هذا الحدّ، بل كان مطلوبا من الخبير تصنيف التبغ وإعطائه علامة معينة ، فكان يفتح الطرد"الدنك" ويفحصه من الجهات الأربعة بعد أن يخرج من كل جهة "صفطة" فإن كانوا متطابقين يصنف الكل تصنيف "X"مثلا وإن لم يجد تطابقا يلجأ إلى تصنيفات متعددة داخل الطرد وحتى في الموسم. وهذا ما يجعل المزارع تحت رحمة الخبير وتصنيفاته وضرائب التالف ونفوذ المتنفذين..

والمزارع الصغير لم يكن لديه قدرة على منافسة المزارع الكبير بالرشوة، فأقصى ما كان يستطيع تقديمه للخبير، زوج زغاليل حمام، فرخة، سلّة بيض، سطل لبن لكي يمرّر له شيئا بسيطاً، وفي بعض الأحيان لا يفلح بذلك..
• كما نعلم، أن انتفاضة كانون الأول 1973، كانت تعبيراً بالدم عن مدى الظلم والحيف الذي كان يمارس على الفلاّح من نيل الرخصة مرورا بالتخمين وصولا إلى التصنيف ، كيف بدأت التحركات على الأرض؟
انطلقت المظاهرة في 22 كانون أول 1973 وبعد أن وصلنا إلى الريجي تحمس الشباب وتمّ تكسير بعض الزجاج ودخلنا إلى الريجي ، وبدأ العمل وكان واضحا أن الدولة تريد كسر شوكة المحتجين وأن لديها نيّات سيئة مبيتة ، فقمنا بتشكيل لجنة لإدارة الاعتصام بشكل عفوي لا رسمي، وكنت من أعضائها إلى جانب موسى شعيب(بعثي عراقي) والشيخ حسن ملك(إمام كفرتبنيت) وأبو تمّام صفا، حبيب ياغي (بعثي سوري) وصبحي حمادة وغيرهم، وبعد أن قررت الدولة إقفال مركز الريجي علينا ومحاصرتنا في الداخل كان عددنا ثلاثة وثمانين شخصاً، والناس الآخرين في الخارج بعد أن منعوا الدخول والخروج إلى مركز الريجي، ما تسبب في حصول مظاهرة الاحتجاج الشهيرة لوقف الحصار عن المضربين والاحتكاك بالدرك في 24 ك1، والتي سقط فيها شهيدان من المزارعين هما: نعيم نعمة درويش من بلدة حبوش وحسن أحمد حايك من بلدة كفرتبنيت وعددغير قليل من الجرحى. وكنا نشاهد الاحتكاكات الدامية من على سطح الريجي انبطاحا برفقة موسى شعيب. وهنا أذكر حينما جاءت القوة العسكرية لأخذنا من الريجي بالقوة وكنا جائعين هلكانين، وقفنا جميعنا وأمسكنا بأيدي بعضنا بعضاً، وأنا كنت أمسك القرآن الكريم وأقرأ ، فدنا مني أحد الضباط من الخلف، وأشعرني ببندقيته وقال لي: "إن معاوية فعلها قبلك".
• هل إعتقلتم جميعاً وماذا جرى بعد ذلك؟
تم اعتقالنا جميعا وأخذونا عنوة بالسيارات العسكرية إلى ثكنة النبطية، وبعد أن انتهوا من التحقيق معنا أفرجوا عنّا، وعندما أرادوا إرجاعنا سألت أحد الضباط: إلى أين تريد أخذنا؟ أجاب: أريد أن آخذكم إلى السماء.. وهو تعبير عن الرغبة في التخلّص منّا، فأجبته: خذنا إلى حسينية النبطية.. وهكذا جرى ذهبنا إلى مسجد النبطية في البداية وبعدها أكملنا اعتصامنا في حسينية النبطية، لم يمانع الشيخ جعفر صادق رحمه الله، فالرجل كان على علاقة جيدة بكامل الأسعد ولكنّه من الداخل كان عروبيا ودفع ثمن عروبته طرداً من العراق.. وبعد أن مكثنا أسبوعاً في الحسينية وأقمنا مهرجاناً خطابياً حضره زعامات الحركة الوطنية وعلى رأسهم كمال جنبلاط، غادرنا الحسينية وذهبنا إلى قرية كفرتبنيت، حيث غالبية سكانها من المزارعين المتضامنين مع الثورة إضافة لكون الشهيد حسن حايك منهم وبقينا هناك لعدة أيام وخشية بروز فتنة توقف الاعتصام واستمرّ النضال ..

• بعد اعتصام كفرتبنيت تم الدعوة لمظاهرة في بيروت في 27 كانون أول 1973 وبعد ذلك تم عقد مؤتمر للمزارعين وانتخاب لجنة تأسيسية ، كيف جرت تلك الأحداث؟
أنا شخصياً لم أكن متحمسا لتلك المظاهرة فبقيت في النبطية ليبقى معي عدد من الفلاحين بينما الشيخ حسن ملك رافق مجموعة من الفلاحين إلى بيروت وهذا لم يكن تنافضا بيننا، وإنما كان سلوكاً مختلفاً باتجاه واحد ولغاية واحدة.. فكمال جنبلاط كان يرى أن تضخيم حجم التظاهرة سيفتح مشكلة جديدة مع الدولة وكان يرى ما يحدث من اضطراب أمني وسياسي في البلد، فجاءت المظاهرة لتنفس الاحتقان عند المزارعين ولتكون مخرجا للدولة من الشرنقة التي حبست نفسها بها، وبالتالي كانت تعبيراً عن تسوية عميقة وحقيقية جرت بين الدولة وكمال جنبلاط والحركة والوطنية، نتج عنها مؤتمرا لمزارعي التبغ في 7 شباط، تم استبعادي عنه بطريقة معينة حيث أرسلوا لي الدعوة قبل يوم من المؤتمر المنعقد في صيدا.. ولم أحضر المؤتمر وفي البيان الختامي شكروا رجال الدين الذين ساهموا في الثورة.. ولم اعترض على اللجنة التأسيسية، فجاؤوا بمحمد نجيب الجمّال رئيساً وكان شيوعياً، وصبحي حمادي وكان بعثيا عراقيا لكنّه كان مستقيماً، وحبيب ياغي كان نشيطاً وأنا كنت مرتاحا لهم كأفراد ولكن المشكلة في أحزابهم… فعملت تلك اللجنة بقوة الواقع لا القانون وتغاضت الدولة عن حركتها، وأصبحت الناطقة باسم مزارعي التبغ، خصوصاً بعد أن رضخت إدارة الريجي والحكومة وحققت بعض المطالب كإلغاء الغرفة السرية العازلة، والسماح للمزارعين بدخول غرفة التخمين وغيرها من المطالب..
أنا طالب علم ومن يعتبر نفسه عالما يبدأ حينئذ علمه بالتراجع، والشعور بالوصول والاكتفاء نهاية، المعرفة هي سفر دائم… ويمكن أن يكون المرء عالما في المدينة، في مكتبته وبين كتبه، ولكن عندما يخرج إلى فضاء القرية والحيّ ويمشي في أزقتها يعود إلى هويته الأولى.
  

السابق
وظيفة محور المقاومة
التالي
اسرائيل: الرد سيشمل إطلاق عشرات آلاف الصواريخ