الخاطف والمخطوف وما بينهما

مزيج من مشاعر الثورة والغضب والانتفاضة والنقمة، يجتاحك وأنت تشاهد يوم الأحد الماضي قداس الشعانين. البطريرك يوحنا اليازجي يترأس الذبيحة، وأمامه في الصف الأول سياسيون حريريون أرثوذكس.
قد تكون المناسبة طبيعية بالنسبة إلى الحاضرين، وخصوصاً أن المكان قد يوحي لهؤلاء تحديداً بأنهم «في بيتهم». إنه دير البلمند وجامعته. المكان الذي للحريري اسم كبير فيه. فهو محفور على لوحة وضعت لتخليد الحجر الأساس لبناءٍ تابع للجامعة الأرثوذكسية الكبرى في لبنان والمنطقة، باسم الحريري. صحيح أن اللوحة بعيدة بعض الشيء عن الكنيسة التي ترأس فيها البطريرك قداس الشعانين؛ لأنه قيل وكتب يومها، أن التباساً حصل بين عقيدة الواهب الإسلاموية وطبيعة المكان الأرثوذكسية. فكان الحل بأن يقام الاحتفال بعيداً عن المذبح، وألا يترافق وضع الحجر الأساس ولوحته، مع إقامة الرتبة الكنسية الأرثوذكسية التي تقام في مناسبات مماثلة. لكن الحجر ولوحته، مهما ابتعدا عن أيقونة سيدة الرقاد، يظلان يظللان بلا شك روح السياسيين الحريريين الحاضرين وراحتهم النفسية، وإحساسهم الكامن إلى حد ما، بأنهم «يمتلكون» المكان…
مع إحساسك بإحساسهم هذا، يزيد غضبك وتكبر ثورتك. لكن المهم في جوهر الموضوع هو في السياسة. وفي هذا الجوهر مسألتان تقفزان إلى ذهنك، من صورة القداس.
مسألة أولى، ملخصها أن هذا الواقف في الصف الأول في الكنيسة، في المقعد الأول منه، ليس غير وزير إعلام غازي كنعان، يوم كان ضابط الاستخبارات السورية يحكم البلاد ويهتك عرض سياسييها و«سياسياتها». فيما هم وهنّ راضون راضيات. وهو من لو أن مساحات كل الصحف والشبكة العنكبوتية تتسع لعرض مآثر أرشيفه وأرشيف أمثاله في تلك الأيام، لخجل الحبر والورق وحتى أزرار الحواسيب. وهو نفسه من تنطح قبل أيام قليلة، ليتطاول على البطريرك الماروني لمناسبة زيارة غبطته لباريس، بالقول إن سيد بكركي يتولى مهمة محامي الدفاع عن بشار الأسد.
في المقابل، هو البطريرك اليازجي نفسه من التقى الرئيس السوري بعيد تنصيبه بطريركاً في دمشق. وهو من في قداس التنصيب، الذي شكل مناسبة زيارة الراعي الأولى للعاصمة السورية، حرص على شكر الأسد. فهل يمكن البطل المستجد لثورة الأرز أن يفسر للناس هذا التناقض؟ كيف يتطاول على الراعي، ويتبرك باليازجي؟ إلا إذا كان يقصد إيهامنا بأن أحد البطريركين يتوسل التقية في فكره وموقفه وكلامه، بمعنى أن يعلن شيئاً فيما يضمر شيئاً آخر. في كل الأحوال، ولاختصار الأمر، هل سأل هذا المسؤول بطريركه، لماذا شكر الأسد، وعلام شكره؟ ولماذا التقاه، وماذا دار في اللقاء، بمعزل عن اعتبارات البروتوكول وتقليد المناسبة؟
أما المسألة الثانية، فهي أن السياسي الحريري يقف في القداس أمام إنسان مجروح ومقهور. حسبه في جرحه وقهره أن حادثة اختطاف تثقل عليه، وجداناً وقلباً وعاطفة وواجباً. حادثة اختطاف متعددة الأبعاد والأحمال عليه. فالمخطوف أولاً شقيق لصاحب الغبطة. وهو ثانياً أخ له في الأسقفية. وثالثاً هو في اختطافه رفيق لأسقف آخر في حالة الظلم نفسه. ورابعاً أنه هو البطريرك، وهي كنيسته، وهم أهله ورعيته ومؤمنوه، هم المستهدفون مباشرة بالخطف. مستهدفون في ثلاثة مجالات من إنسانيتهم: مستهدفون في إيمانهم أولاً، وفي حريتهم ثانياً، وفي حياتهم ووجودهم ثالثاً. كأن الخطف رسالة إلى البطريرك وإلى بطريركيته كلها، بأنه لم يعد مسموحاً لكم أن تجمعوا هذه المقومات الثلاث: يمكنكم أن تكونوا مسيحيين موجودين، لكن بلا حرية. ويمكنكم أن تكونوا مسيحيين أحراراً، لكن موجودين في مكان آخر، لا هنا. ويمكنكم أن تكونوا موجودين أحراراً، لكن لا كمسيحيين. أما أن تكونوا مسيحيين أحراراً متمسكين بوجودكم في هذه الأرض، فهذا ما عاقبته الخطف والاختفاء وحتى الموت.
معادلة طبيعية في حياة أسقف، لا بل قد تكون رجاء تلك الحياة، شهادة لرسالته وإيمانه. لكن أن يكون الخاطف حليف هذا الواقف في الصف الأول، فهو ما ليس طبيعياً ولا منطقياً ولا مفهوماً ولا مقبولاً. أن يكون لهذا «المصلي» زميل منتدب في أرض الخاطفين، مكلف رسمياً من سيده ومن أسياد سيده، وأن يقف هو أمام شقيق المخطوف مصلياً، فتلك من علامات الأزمنة. ترى، هذا الوقت الذي قضاه وجهاً لوجه أمام البطريرك، لو أنه أمضى بعضه، أو استبقه، باتصال بزميله المنتدب إلى «أرض النصرة»، قائلاً له: فيما تقوم بواجبك الرسمي «بستر عورات النساء»، لو أنك تطلب من ثوارنا الأشاوس تحرير الأسقفين، كي أستر وجهي أمام البطريرك… أما كان أنفع لإيمانه وأصدق لتقواه وأصرح لورعه الكنسي الراشح قداسة؟
صحيح أنه في السياسة كل شيء مباح، لكن على الأقل، أتركوا الرب ومذبحه بلا نفاقكم، أقله يوم دخوله أورشليم. تكفيكم جمعة بيلاطس واحدة هذا الأسبوع

السابق
واشنطن تتخلّص من أعدائها
التالي
إحباط احتلال جديد للغجر