رحيل مبدع الزمن الجميل

ليس من السهل الكتابة عن رحيل مبدعٍ، وديعٍ، متواضعٍ، وفي الوقت ذاته زميل وصديق حلو المعشر، عفيف اللسان، ضحكته الرنانة تزيل الهمّ عن القلب مهما كان ثقيلاً: بيار صادق.
بيار الذي تحوّل مدرسة في فن الكاريكاتور، وجعل نجاحه الباهر الذي تجاوز لبنان الكثير من الصحف والمجلات تتبنى "زاوية" الكاريكاتور، ثم لم تلبث التلفزيونات من فضائية وأرضية أن اقتدت بخطوته الجريئة والناجحة التي أدمنتها شاشة الـ "LBC" في نهاية النشرات الاخبارية المسائيّة.
يا غافل لك الله. في الصباح الباكر أمس، وأنا أتهيأ للتوجه الى "النهار" رنّ النبأ قبل الهاتف: لقد غادرنا بيار الى استراحة المحاربين القدامى.
إذاً، ها هو الموت يغلبنا مرة أخرى، لينقص عدد الزملاء الأصدقاء، القدامى، الأوفياء، المعتقين، حبيباً من أنصعهم وألطفهم وأهضمهم، وأصدقهم في المحبة والوفاء واللهفة.
يشهد الأطباء وأفراد العائلة الجميلة والأصدقاء القلائل أن بيار قاومه. قاوم ذلك اللعين اللئيم. صارعه. حاول أن يلوي له زنده.
لكنها الاستراحة، التي لا بدّ لكل محارب من أن يعرّج عليها في نهاية المطاف.
هو أيضاً كان يعرف. وكان يؤمن أن ثمة فواجع لا يمكن تفاديها، ولا التغلّب عليها… إلا بالمزيد من حب الحياة. بالمزيد من الحب المطلق. بالمزيد من الضحك والكاريكاتور والتسامح.
منذ اليوم الأول الذي جمعنا في مكاتب "النهار" القديمة في سوق الطويلة، تصادقنا.
ومنذ اليوم الأول لم يضيّع ثانية: يرسم كل ما يقع عليه نظره ويحوّله كاريكاتوراً، لا يثير السخط بقدر ما يثير الإعجاب.
وهو نفسه، بيار الحبيب المدهش، رسم غلاف روايتي الأولى: "الرجل الأخير"، التي قال فيها الأستاذ غسان تويني ضاحكاً: لولا رسم بيار ما كان حدا فتح رواية الديري…
في الصفحة الاولى من "النهار" أقيمت زاوية للكاريكاتور. ثم لم تلبث النجاحات والأصداء المشجّعة أن دفعت أستاذنا غسان الى نقل الكاريكاتور الى أعلى الصفحة الأخيرة. ومن أولها الى آخرها.
ثم كان لا بدَّ للأحداث والأيّام أن تتدخّل وتتداخل، ويجد بيار صادق نفسه ينتقل من شاشة الى أخرى، مع صموده اليومي في موقعه "النهاري". ثم يحصل ما قد حصل.
لا أدري كيف قادتني خطواتي أمس الى سوق الطويلة، وكأن يداً رقيقة تشدني لنصعد معاً ذلك السلم الطويل الذي يقطع الأنفاس، ونجوب جنبات تلك القرميدة التي آوتنا وأطلقتنا، وأطلقت أنجح جريدة عربية من المحيط الهادر الى الخليج الثائر ولسنوات كان على هذه الجريدة، على هذه "النهار" ان تكون منبر العرب، كل العرب، وملتقى رجالاتهم وقضاياهم، وفسحة الحرية لهم.
الغالي بيار، بأسف وحزن أُبلغك أنني لم أجد سلّماً طويلاً أو قصيراً، ولم تكن هناك قرميدة، ولا حتى سوق الطويلة عثرت له على أثر.

السابق
جدل في الرشيدية بسبب اقتراح تعيين مسؤول شارك بأحداث البارد
التالي
ازمة اللاجئين السوريين تتفاقم.. والحل بإقامة منطق عازلة