إدارة أوباما و”الدول المارقة”

ثمّة، رغم كل الإخفاقات التي منيت بها سياستهم الخارجية في غير ملف عبر العالم، "نواة عقلانية" في معشر من عُرف بـ"المحافظين الجدد". تكمن هذه النواة في أنّه، عندما وقع الحدث الإرهابي الكبير، هجمات أيلول، تنبّهوا إلى أنّه لا يمكن تشخيص العدو على أنّه "أشباح" أو مجموعة شبكات تخريبية سرّية عابرة للحدود ليس إلا. كما تنبّهوا، ولو بعد حين، إلى أنه لا يمكن تعميم صفة العدو على حضارة دينية بمجملها، وأنّه لا يمكن "خبط لصق" تطبيق نظرية صدام الحضارات الأساسية في تشخيص المسارات الجيو ـ ثقافية في زماننا. بالتالي، كيف يمكن تشخيص العدو، من دون الوقوع في دوامة تعقّب أشباح أو في رؤيوية الاصطدام الواعي بحضارة بأكملها؟ قضى ذلك بأن يجري تشخيص الخصم في أنظمة سياسية، في دول "مارقة".
المشكلة مع باراك أوباما تكمن هنا. صحيح أنه، بالثقافة السياسية التي يعبّر عنها، يقف في المربع التقدّمي، الليبرالي، البعيد تماماً عن "الإسلاموفوبيا" التي شابت تفكير المحافظين الجدد، زد على ذلك أصوله الإسلامية وهويته الخلاسية على الصعيد العرقي. لكن كل هذه المزايا تنقلب عوامل سلبية عندما يتعلّق الأمر ليس فقط بالموقف من عمل إرهابي كبير أو صغير، إنما بكل ما يجري في هذا العالم. باراك أوباما يفتقد هذه النواة العقلانية عند المحافظين الجدد. هم ظلوا متيقظين إلى أنه ينبغي الإفلات من تشخيص العدو في أشباح لا ترى بالمجهر السياسي وفي حضارة تفترش أقاليم شاسعة على امتداد ثلاث قارات، وأنه لا بد من التصدّي لنوع معيّن من "الدول"، بصرف النظر عن الموقف من أولوية مهاجمة هذه الدولة أو تلك. أما باراك أوباما، والديموقراطيون بشكل عام، فيقعون هنا في "حيص بيص". تقول العرب: وقع الناس في حيص بيص، أي في شدة واختلاط. هو تماماً حال الديموقراطيين سواء في المسألة السورية، أو في ما جرى ببوسطن. هم أكثر تقدمية من المحافظين الجدد، وبالتالي يفترض أن لديهم مناعة أكبر ضد "الإسلاموفوبيا"، لكنهم، وبما أنهم لا يستطيعون تشخيص العدو في صيغة "دول" أو "أنظمة حكم"، حكموا على أنفسهم بأن يظلوا أسرى ثنائية توجيه الاتهام لأشباح أو لحضارات.
هذا في وقت من الواضح فيه أكثر من ذي قبل أن "الدول المارقة" لا يرتجى من داخلها إصلاح. جماهيرية القذافي التي سوّقت لنفسها على أنها نموذج الدولة المارقة التي تنجح في إعادة تدوير نفسها والاندماج في المجتمع الدولي ولو بشكل هزليّ، عادت وتعاملت مع جماهيرها على أنها جرذان وجراثيم تنبغي إبادتها. الجمهورية الإسلامية في إيران التي كان يرتجى من ثنائية محافظين وإصلاحيين فيها أن تقودها الى الإصلاح الداخلي والانفتاح الخارجي، سرعان ما انقضّت على هذه الثنائية، واندفعت في سياسة إقليمية متوترة ومغامرة. النظام السوري الذي كان يرتجى تغيير سلوكياته، أظهر قدرة لا مثيل لها على تخريب المجتمع السوري، وقتل عشرات الآلاف، من دون أن يتمكّن من تفادي عملية احتضاره المتراكمة على مدى عامين، في بحور من الدماء. كوريا الشمالية، بين الجد وبين المزح، لم تعد هذا النظام الذي يطلق صاروخاً تجريبياً كي يتسّول قمحاً وشعيراً، وصار يمكن في وضع دولي مختل بهذا الشكل أن تشعل حرباً عالمية. كل هذا، والإدارة الديموقراطية تريد أن تشخّص عدوها في شبح، تنظيم "القاعدة" أو ما يعادله، لا في أنظمة ودول.

السابق
معركتنا ضد الإرهاب
التالي
يعالون: إسرائيل نفذت غارة على قافلة أسلحة متطورة لحزب الله