صيصان قديمة لفصح جديد 

أضحكني كثيراً أحد السياسيين من ضيوف برامج الصباح على الشاشات اللبنانية. سألته مقدمة البرنامج، وكان خبر تسمية تمام سلام قد ورد للتوّ، عن رأيه فيه، فقال: «تمّام سلام ابن بيت سياسي معروف، وهو لا شك سيكمل مسيرة والده صائب سلام رحمه الله، الذي لا ننسى أنه صاحب نظرية «لا غالب ولا مغلوب» و«التفهم والتفاهم»».
لستُ من جيل صائب سلام، ولو أني شهدت منذ عودتي إلى الوطن منتصف التسعينيات «تطبيقات ميدانية» لما تعنيه جملة «لا غالب ولا مغلوب» العبقرية، ولم ألحق «التفهم والتفاهم». سألت والدي: بابا؟ شو يعني التفهم والتفاهم؟ فأخبرني أن الشعار عائد لأيام التصادم الشمعوني الناصري. وأخذ يشرح ويشرح. ففهمت التصادم، لكني لم أفهم الشعار «أنو شو يعني بابا التفهم والتفاهم، شو بيقصد؟»، فقال: «التفهم يعني تفهم الآخر، والتفاهم يعني التفاهم معه»! ثم ضحك، فضحكت وقلت له: «شي كتير قوي يعني؟». فهز برأسه وهو لا يزال يضحك.
وإنّ من يستعيد غالبية «مساهمات» رؤساء الحكومات ورجال السياسة في التنظير السياسي اللبناني، يجد أنها تنتمي جميعها إلى هذه «المدرسة»، أي اختراع شعار يخاطب الخوف التأسيسي الكامن في كيان الجمهورية اللبنانية: الخوف من انفراط «قرطة العالم المجموعين». وهو أمر يحصل كل عقدين أو ثلاثة. تستقيل حكومة بسبب أزمة ما، ويأتي بعدها رئيس مكلف، أو تنتهي ولاية رئيس ويأتي «اللي بعدو» مستلاً من جيبه السحري أرنباً من النوع نفسه، لكن بلون جديد. أشياء تشبه صيصان عيد الفصح الملونة، لكل واحد منها لونه، لكنها كلها في النهاية مجرد صيصان.
هكذا، يحرص كل منهم على ابتداع جملة تصلح عنواناً لأحد الحلول المؤقتة، لأزمة نظام مستمرة منذ عقود، تريد له الطبيعة أن ينتهي، فيما يجري استيلاده مجدداً بشكل مخالف للطبيعة.
شعارات هي في الحقيقة أسماء لابتكارات تتحايل على «العيش المشترك»، عبر تسويق نظريات أنقذت النظام الطوائفي التوافقي في مرحلة ما من أزمة هنا أو هناك.
في هذا الباب، هناك الكثير، وليس آخرها بدعة «النأي بالنفس» لرئيس الحكومة المستقيل. حيث بدا أن الشعار ليس إلا طريقة لينأى بنفسه عن كل ما لا يريد أن يفعله. أما ما يريد له أن يكون؟ فالأحداث التي هزّت فترة حكمه، تثبت أنه لم يكن نائياً «ولا نتفة».
ولنستعد تاريخ النظريات الليبانو – ليبانيز: قوة لبنان في ضعفه (بيار الجميّل الجد)، أصغر من أن يقسّم وأكبر من أن يبلع (ميشال عون)، لبنان لا يطير إلا بجناحيه (بيار الجميّل)، أعطونا السلام وخذوا ما يدهش العالم (ريمي بندلي وأمين الجميّل)، «وطني دائماً على حق» سليمان فرنجية، 10452 (ليك ملا شعار) بشير الجميّل، حروب الآخرين على أرضنا (غسان التويني) بمعنى «انو ما خصنا بالحرب الأهلية هودي الغرباء هني العكا…»… «لبنان لا يحكم من سوريا ولا يحكم ضد سوريا» لغسان التويني «استعارها» الحريري الأب. وكما يبدو واضحاً، كل هذه الشعارات تصبّ في فكرة واحدة تتكرر على مدى تاريخ هذا الكيان، فكرة الخوف من انفراط الجمع اللبناني، فكرة ربما لخّصها الراحل جبران تويني في قسمه… لنقل المبسط «نقسم بالله العظيم أن نكون موحدين مسلمين ومسيحيين إلى أبد الآبدين».
هناك شعارات فرعية من نوع «اللي بيحضر السوق بيبيع وبيشتري» نبيه بري، «الوجود السوري ضروري وشرعي ومؤقت» إميل لحود والكورس (أي الجميع). «ما حدا أكبر من بلدو» رفيق الحريري في معرض حديثه عن إمكانية إقفال «تلفزيون المستقبل»… هناك شعار للرئيس الباكي الراحل، إلياس سركيس، يقول: «أنا منكم أنا لكم أنا معكم».
يجب القول إن هذه الشعارات اقترنت بأصحابها، أي إنها اقترنت بمرحلة خاصة، ولا تصحّ خارج السياق السياسي وظرفه، وهذا دليل إضافي على هشاشتها ومرحليتها. فلبنان، منذ تأسيسه لم يستطع أن يصوغ نظرية، تخدمه لمدة أطول من هدنة بين حرب وحرب. ولهذه المشكلة طبعاً أساس، هو أن الأساس، أي أساس النظام اللبناني، جرت «هندسته» بالضبط ليكون كذلك. ولذلك، فالمواليد المسوخ الذين ينجبهم منذ تأسيسه، هم مواليد شرعيون ومؤقتون وضروريون أيضاً، لاستكمال النظام لدوراته العبثية.
على فكرة: بمناسبة تكليف تمّام سلام، يبدو أن بلدية بيروت كلفت نفسها للمناسبة إعادة تأهيل ذاكرة بيت سلام في الفسحة العامة البيروتية، أي: تأهيل تمثال صائب سلام المطلّ على بولفار صائب سلام (كورنيش المزرعة للعامة)، حيث هناك ورشة منذ أيام حول التمثال لتأهيل الحديقة بجانبه.
حتى الآن، لا تشي حركة الرئيس المكلف إلا بسعادته لتكليفه. فقد بدأ يرتطم بجدران دعم النظام اللبناني المتهاوي، محاولاً، كما تشي خياراته، استئناف «لبنان ما» من حيث تركه ربما والده. ولئلا نكون متعجلين، سننتظر، ولو دون أمل… على أمل أن لا يقتصر إبداع الرئيس المكلف على اختراع شعار، من الفصيلة نفسها، ربما لن يتوافر له الوقت إن أكمل بهذه الطريقة… لاستهلاكه.

السابق
بطولة الفولكلور المدرسي في النبطية
التالي
السجن 5 سنوات لرجل الدين حسن مشيمش