تأخرن عن سن الزواج ففاتهن القطار

فتيات في مهب "الحرية" وإن أطلق عليها صفة "عوانس"، فهذا المصطلح أصبح "بالي"، فالزاوج لم يعد مرتبطاً بسن محدد، والعنوسة اليوم لم تعد مقتصرة على الفتيات بل هناك شباب "عانسون"، ورغم تطور العصر وإمتلاك الفتاة "حرية الحياة" مازال لقب "عانس" يلاحقها، فكيف تعيش مع هذا اللقب وهل دخلته "بإرادتها" أم هناك ظروف رافقتها وما هي نظرة ذكورية المجتمع لها أسئلة ترصد حالة "عنوسة المرأة" في بلد معظم رجاله "عانسون".
"ينتابني شعور غريب وأنا وحيدة بعيداً من ضجيج نهاري وصخب عملي"، تحكي مريم كأنها لا تزال مختلية مع نفسها: "لحياتي لونان: أبيض، وهو عملي والنجاح الذي أحقّقه، وأسود يعتلي غربة جدران المنزل والكآبة التي تسكنه وتسكنني فيه".

مريم
تعلمت مريم كي "تنجح"، لم يحالفها الحظ في البقاء مع من أحبّته، فانتهت علاقتها بغير الخواتيم المرجوة، فانضمت إلى ركب المتأخرات في الزواج، كي لا تقول "العوانس"، كما يطلق على من اخترن عدم الزواج، أو لم يعثرن على رجلهنّ المناسب. "بعد العمل أكنس، أطبخ، أجلي، أتحمّل تأفّفات من حولي، سلاطة لسان خطيبة أخي، ومزاجية أختي التي تتحضر للزواج وغيرهما". إنها باختصار بعض يوميات صبية في الثانية والثلاثين.
وإن قيل لها إن هذه السنّ لا تزال مبكرة للعيش في "غربة كئيبة" كالتي تصفها. تضحك بمرارة لتقول: "الـ32 ليست سناً ملازمة للعنوسة، فنمطية الحياة اختلفت، وأصبحت أعمل لأكوّن مستقبلي أسوة بالشباب، أضف إلى أن النضج الفكري يتبلور في هذا السن". بيد أن محاكاة الواقع تختلف، فلم تعد الفتاة تبالي بالزواج بقدر بحثها عن تأسيس كيانها المستقل وسط معمعة الظروف الاقتصادية، وهذا أنسى كثيرات "همّ الزواج"، إضافة إلى "طحشة صبايا الطعش (من عمر 15 عاماً إلى عشرين عاماً) إلى الواجهة، وهذا يحدّ من العثور على فارس الأحلام"، بحسب قولها.
بالنسبة إلى مريم، لا تقتصر المعاناة على إحساس الفتاة بحاجتها إلى حبيب وشريك، يعني رجلاً تعيش معه مشاعرها وأحاسيسها، بل يشمل ذلك الأهل والمجتمع والمحيط وحتى نظرة الشباب أنفسهم. وعليه، فهي تضطر إلى تحمل مشاحنات الأهل المستمرة وتعاملهم معها كأنها عبء لا حول لهم ولا قوة عليه، ثم هناك فضول الناس واضطرارها إلى مجاراة محيطها من دون تذمّر.
تتحمل طلبات والدتها التي لا تنتهي، بل أكثر من ذلك، ها هي على رغم تخطيها الثلاثين، مضطرة إلى استئذان أمّها للخروج كأنها طفلة. تعمل من التاسعة صباحا حتى الرابعة بعد الظهر، وعندما تعود تهرب إلى النارجيلة، رفيقتها الوحيدة و«فشّة خلقها" في مواجهة «مرارة الوحدة والفراغ وفضول الناس وحشريتهم»، الذين لا يكفّون عن سؤالها في كل مناسبة ولقاء: "ليش ما تزوجتي لحد هلق؟
لكن أكثر ما يؤلمها في الواقع، هو استسهال الشبّان والرجال المتزوجون فرضية إقامتها لعلاقات عابرة. سبق لمريم أن تركت وظيفة أحبّتها عندما عرض عليها ربّ عملها زواج "المتعة" بذريعة سنّها المتقدمة! "يعني ما بقى يجيك عرسان"، قال لها مرغّباً. تتذكر أن قشعريرة سرت في كل أنحاء جسدها، وأنها فتحت باب المكتب وغادرت إلى غير رجعة.
تطلق مريم حكماً على "المجتمع الرجعي" كما تسميه، فهو "يضع قيوداً على تصرّفات الفتاة، يراقب تحرّكاتها خصوصاً إذا فاتها القطار، فترى نفسها بين مطرقة العزوبية المتأخرة وسندان المجتمع الرجولي القاسي الذي يرى فيها صيداً ثمينا".

مايا
"عليّ أن أكون أسداً في غابة الرجال"، تقول مايا (33 عاما) التي تدفع ثمن مزاجية الأم وتعنّت الأب اللَّذين حرماها الزواج لترعاهما. تهرب إلى واقع رسمته لنفسها عبر ريشة وألوان تخط عبرهما الحياة التي تحلم بها، ترسم البحر وغروب الشمس، منزل الأحلام، الأطفال، تبني قصرها مرتعاً لطفلها بواسطة الأحجار التي تجمعها من الحقل. تعمل مايا مدرّسة للأطفال، وتحب عملها كثيراً لأنه "يعطيني الحياة". المنزل في نظرها يعني "الفراغ". تحلم دائماً بأن تدخل منزلها ويكون ابنها وزوجها في انتظارها، وسرعان ما تعود إلى الواقع لئلا تصاب باكتئاب: انترنت ورياضة، رسم وأشغال يدوية، هي الأسلحة التي تعتمدها في حياتها اليومية لمواجهة الفراغ القاتل. تقول: "ليس عيباً البقاء من دون زواج، فأنا أعمل وأؤمّن اكتفائي الذاتي وأعيل أهلي أيضا. لا أفكر في أنني عالة على أحد، أنا مكتفية بذاتي وهذا مهم". لكنها تعاني من المجتمع، "خصوصاً إذا كان محافظاً وطابعه ديني. أسمع أن هناك كثيرات يلجأن إلى زواج المتعة"، تقول. وهي بالذات تتعرض لـ "تلطيش ومحاولات تحرّش، إن عبر الهاتف أو بواسطة النت أو غيرهما. فالشباب يستغلون الفتاة وخصوصاً تلك التي تتخطى الثلاثين، ظناً منهم أن القطار قد فاتها". تعود مايا لتذكّر "أن قوة شخصية الفتاة تمنع عنها أي إهانات كهذه".

سهى
"العلم هو سلاح المرأة"، تتذكر سهى العبارة التي طالما ردّدتها جدتها على مسامعها. "يمكن ما يجي نصيبك هيك بيكون معك سلاح"، كانت تنصحها. تحب سهى هذه المقولة وتردّدها دوماً. حصلت على شهادة ماجستير في علم النفس، وتعمل مُصْلِحة اجتماعية. تقدّم كثيرون لطلب يدها "لكنهم دون المستوى"، تقول. "أبحث عمّن يشبهني في التفكير والمنطق، الحياة مشوار طويل لا ينتهي في يوم". لا تنكر سهى حنينها إلى الحب، وإلى حبيب تجده بجانبها وقت الشدّة، ولا تخفي غيرتها من أخريات يعشن الحب، غير أنها تقول: "الزواج قسمة ونصيب". ترفع رأسها كمن يرغب في تأكيد رضاه عن حاله، لتضيف: "حياة الفتاة لا تتوقف على الزواج والرجل، هناك نساء ناجحات تبوّأن مراكز مهمة في شركات ومؤسسات، وهنّ سعيدات بأنفسهن وأوضاعهن. الرجل ليس الحياة كلها، هو جزء منها، ولست نادمة حتى اليوم عن رفض شبان كثر تقدموا للزواج مني".

ريما
ترفض ريما الباحثة في الفكر الاجتماعي (35 عاما) فكرة أن تصبح "العنوسة"، وفق ما يطلق على العازبة من صفة "وصمة اجتماعية"، غير أنها لا تنكر الضغوط التي تتعرض لها سواء كانت نفسية أو من الأسرة أو المجتمع. وتشير إلى أن أسوأ الضغوط هو ضغط المجتمع الذي يبدأ من النظرة، وإلقاء الكلمات الجارحَة، والأشد عنفا هو اتهام الفتاة بخوض "علاقة غير شرعية، ولذا هي رفضت الزواج، أو اعتبار عدم زواجها فشلاً تعوّضه في التركيز والنجاح في العمل". وترى "أن مشكلة عدم الزواج تزداد بسبب هجرة الشباب، وضيق القدرة على تأسيس منزل عند الشباب المقيم"، رافضة أن تظلم نفسها، بارتباطها بمن لا يتوافق معها، و«لعل هذا ما يعلّل وجود أكثر من 45 في المئة من حالات الطلاق بين حديثي الزواج". وتشير إلى «أن الفتاة غير المتعلمة قد تقبل أي عريس يتقدم إليها، فهي تجلس في المنزل تنتظر قدومه، أما أنا فلا أقف مكتوفة بل أتطوّر وأسعى إلى تحقيق ذاتي".

لورا
على رغم كون مصطلح "العنوسة" مشبوهاً ولا يصف واقع الحال، فإن لورا تعتبر الزواج "حالة معقّدة في حدّ ذاتها، بل ممنوعة من الصرف لأنك في هذا العمر تتعرض لمشاكسات رجل تخطى الزواج الأول، ويبحث عن متعته في مكان آخر". وتضيف لورا التي باتت على عتبة الأربعين من دون زواج: "أنا أعمل ولا أحتاج إلى أحد، أعترف بحاجتي إلى الحب والرجل في حياتي… لكن الأهم أنني أحتاج إلى أن يتركني بسلام أهلي والمجتمع وخصوصاً الرجال".

أسباب العنوسة
يرى الباحث الاجتماعي هاشم بدر الدين أن أسباب عدم زواج البنات كثيرة: "بعضها خاص بالفتاة، حيث لا يزال بعضهن يتأثر بروايات الجد والجدة، عن فارس الأحلام الذي ترسمه الفتاة في مخيلتها، وتنتظر قدومه وترفض كل من يتقدم لطلب يدها. وفي انتظار الفارس الكبير الذي لن يأتي، تضيع الفرص المتاحة". ويحمّل بعض المسؤولية للأهل "الذين يطمحون إلى زواج ابنتهم في معظم الأحيان من طبقتهم، إضافة إلى أفكار عقائدية لها علاقة بالطوائف والسياسية والعمل".
ويلفت إلى "النتائج الكارثية" لعدم الزواج على المجتمع، إذ يؤدي إلى اضطراب سلوك الشباب والفتيات على السواء، وانتشار ظاهرة الزواج الموقت الذي يعتبره بعض اللواتي كبرن في السن ولم يتزوجن منفذاً أو باب فرج". كذلك يلفت إلى "أن المجتمع االلبناني لا يسمح بالعلاقة الجنسية غير الشرعية. إضافة إلى أن الفتاة بطبيعتها حسّاسة وهذا الموضوع يؤذيها، ففيه ظلم لها وأيضا حرمانها من إنجاب طفل في حال عدم زواجها".
ويعزو جانباً من المشكلة إلى عجز الشباب عن تأمين منازل بسبب الأوضاع الاقتصادية، متوقفاً عند هجرتهم وزواجهم من أجنبيات واستقرارهم في الخارج، في مقابل قلّة تعود وتتزوج في لبنان، وهذا في نظره، يُحدث خللا في البنية والتركيبة الاجتماعية، ويهدّد الأمن الاجتماعي ويترك آثاراً سلبية على البنية النفسية للفتاة. ويرى الحل في "محاولة حث الشباب على العودة إلى لبنان وعدم الزواج من أجنبيات من أجل الجنسية، لأنهم بذلك يساعدون على ارتفاع نسبة الصبايا غير المتزوجات".
  

السابق
الرئيس الروسي ندد بتفجيرات بوسطن
التالي
سلام: مشوارنا مستمر حتى إجراء الانتخابات