عن لبنان الأصغر

من الصعوبة بمكان أن يصدق المراقب هذه الأيام أن هناك اهتماماً غربياً بلبنان، كملف مستقل في ذاته ومن أجل ذاته، كما تقول الفلسفة. يمكن واشنطن أن تكون مهتمة بجزئية لبنانية، عنوانها تأثير هذا «المكان» على أمن إسرائيل العسكري كما منذ عقود سابقة، أو أمنها الغازي إنتاجاً ونقلاً وتجارة، للعقود الآتية. ويمكن لندن أن تكون مهتمة بالتنقيب في «حقول» ثروتنا المكتشفة بحراً وبراً، بعد تاريخ من حكايات التنقيب في حقول شملان وحكايات الاستخبارات. ويمكن حتى باريس، قابلة ولادة هذه «الدولة» قبل نحو قرن، ووهم أمها الافتراضية الحنونة ومربط خيلها وأشباه الخيل… أن تكون مهتمة بتحول هذه «الساحة» مختبراً لدراسة ملفات كثيرة: مثلاً كيف ستنتهي تداعيات ما أطلقه الغرب من عواصف عندنا وفي جوارنا؟ أو كيف يمكن منطقة معينة مثل المشرق أن تعيد تاريخها بعد قرن كامل، لكن بشكل معكوس هذه المرة؟ أو هو مختبر غربي أيضاً لاكتشاف ماذا تفعل هذه الكائنات الحية، المسماة مسيحيين ومسلمين وغرائب وعجائب، بعضها مع بعض وبعضها ببعض في أوقات أزمات الوجود وعند خطوط الزوال؟ وصولاً ربما إلى اختبار حول كيفية المواءمة بين أسطورة «سحر شرق» وكوابيس «جبهة النصرة»…

كل ذلك يمكن المراقب أن يصدق اهتمام الغرب به راهناً، أكثر بكثير من قصة أن في تلك العواصم من يهتم بلبنان. يقفز هذا الواقع إلى ذهنك وأنت تستمع إلى سائقة التاكسي في جادة باريس الأكثر شهرة، وهي تشير لك إلى المباني التي باتت «غير فرنسية» على جانبي الطريق التي لا تنام، قبل أن تخفي مرارتها الوطنية برواية آخر نكتة فرنسية: هل تعرف لماذا لا يزال المناخ الباريسي جليدياً في نيسان؟ قبل أن تجيبك ببسمة سوداء: لأن القطريين اشتروا حتى «الربيع». في إشارة إلى آخر صفقة أتمّها أهل الدوحة الصحراوية هناك، بشرائهم سلسلة محال «لو برينتان»… أو الربيع، باللغة الفرنسية.

تتكامل هذه الصورة مع التدقيق في حقيقة الاهتمامات الفرنسية والأولويات الباريسية هذه الأيام. خارجياً، لا هم إلا مالي وإسلاميوها. داخلياً، أزمات «ملفات» السياسيين القضائية وسط جو اقتصادي ضاغط. اجتماعياً انهماك بتشريع «الزواج للجميع»، أو قانون السماح بزواج المثليين، وسط عواصف متقابلة حول أي من الرأيين يتطابق أكثر مع «قيم الجمهورية». حتى إن البعض خشي أن يتم إلغاء لقاء البطريرك الماروني مع وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس، لا لشيء، إلا لأنه صودف في اليوم نفسه أن سرت شائعة عن وجود حساب مصرفي سويسري لمن جعل منه ميتران ذات يوم أصغر رئيس حكومة لفرنسا. وذلك بعد أيام على استقالة زميل له، بالضربة نفسها. لكن رغم كل ذلك، يبدو أن الفرنسيين يريدون أن يسمعوا عن لبنان، ويريدون أن يسمعوا من لبنانيين عن بلدهم. العارفون بحقائق الأمور في باريس لا يركنون كثيراً إلى ذلك، ولا يطمئنون. يعتقدون أن في الأمر شيئاً يتراوح بين محاولة إراحة الضمير وبين سعي مضمر إلى غسل اليدين من دم صدِّيق أو صديق سابق. يخشى هذا البعض أن يكون في استقبال الفرنسيين لمسؤولين لبنانيين شيء من القول لهم: نعم صحيح أننا قبل قرن نجحنا في اقتطاع بلد مستقل لكم، لحظة انهيار السلطنة التي كانت يومها رجلاً مريضاً وعدواً، لكن الآن انظروا ماذا حصل. أنتم لم تعرفوا كيف تحافظون على دولتكم من جهة، فيما تعود السلطنة «رجلاً صحيحاً» هذه المرة، وتعود مصالحنا إلى الارتباط بها لا بكم. فماذا تريدون أن نفعل؟؟ إنه تكرار التاريخ معكوساً. قبل مئة عام، رعينا انتقال المشرق من حكم إسطنبول إلى حكم دول مستقلة. وبعد قرن على تلك «الغلطة»، قد نرعى الانتقال من دول المشرق المسماة مستقلة، إلى النيو ـــ امبراطورية عثمانية. وقد يضيف الفرنسيون: حسناً، ما جنيناه في سوريا أدى إلى ويلات كبيرة عليكم لجهة النازحين. سنحاول احتواء الأمر «إنسانياً». لقد طلبنا من الخليجيين أن يدفعوا لكم بعض الفلوس. حتى تحدثنا مع الأميركيين ليطلبوا ذلك منهم أيضاً. طبعاً ندرك أنه لا يكفي، خصوصاً أن الأمور تتجه نحو تفكيك منطقتكم بالكامل. لكن لا تخافوا، بدأنا نستعد حتى لهذا السيناريو. لقد طلبنا من بعض خبراء الأبحاث عندنا أن ينبشوا لنا كل الدراسات السابقة حول لبنان أصغر أو معدل أو «مفدرل». ولا نخفيكم أنهم وجدوا لنا دراستين جديرتين جداً بالاهتمام في هذا المجال؛ واحدة للمحامي الراحل موسى برنس، وأخرى لشيخ عقل الدروز الراحل محمد أبو شقرا. ومراكز دراساتنا منكبة على العمل عليهما. لا تخافوا. كل شيء تحت السيطرة. في أسوأ الأحوال، كما هي إسرائيل جزء من أوروبا، لكنها مزروعة في قلب المشرق، يمكنكم أنتم أن تظلوا جزءاً أصيلاً من الشرق، لكن منقولاً إلى أوروبا، أو… إلى أي مكان آخر. لا تخافوا!

السابق
إذاً، فلتكن حكومة تُشبه لبنان
التالي
اللواء: فترة التأليف لن تطول وقد تستغرق بضعة أسابيع