دولة الرئيس ابن صائب بيك

دأب النائب الراحل أديب الفرزلي على القول كلما همّ بالذهاب إلى المجلس النيابي إنه ذاهب إلى أميركا، باعتبار النيابة طريق الثروة، لكنه مات مفلساً. أما الرئيس المكلف تمام سلام فلم يملّ يوماً من ترقّب سحب اللوتو، حتى حين لا يكون قد اشترى أوراقاً. مع سلام، تتعدل مقولة إن كل لبناني يعيش على ماضيه وليس على مستقبله، فهو يعيش حتى اليوم على ماضي والده

يروى أن الرئيس بشارة الخوري عرف قبل جميع اللبنانيين أن صداقة سكرتير المندوب الفرنسي أنفع وأبقى من صداقة المندوب الذي يتغيّر فيما السكرتير لا يتغير. فوطّد علاقته بالرجل الثاني في المفوضية الفرنسية. ويروى أيضاً أن الشيخ بشارة تنبّه إلى سعي السعودية لمزاحمة العراق على النفوذ الإقليمي عبر استمالة خصمه الرئيس إميل إده الفرنسيّ الهوى إلى صفها، فيما هو يتّخذ من القنصلية العراقية باعتبارها بريطانية الهوى والجنيهات محجّة له ولأصدقائه وملتقى وطنيتهم وحركتهم التحريرية، فأصبح الخوري والرئيس رياض الصلح سعوديين أكثر منهما عراقيين. درسان حفظهما الرئيس المكلف تمام سلام من صديق والده حتى انقلابه عليه، وأتقن استغلالهما سواء مع ولي العهد السعودي سلمان بن عبد العزيز أو سائر الأمراء الذي يحنّون إلى ذكريات شبابهم ووالده، للفوز بالرضى السعوديّ على تسميته رئيساً للحكومة اللبنانية.
حين كلف الرئيس نجيب ميقاتي تأليف حكومته الأخيرة، قال كثيرون إن رفيق الحريري آخر في طور الولادة. نفوذه الطرابلسي أوحى بذلك، وثروته وأخطبوطية علاقاته وسرعة بديهته وقدرته على العبور كالمياه بين تشققات العلاقات الدولية والإقليمية. لكن سرعان ما بيّن ميقاتي أن تأثره بابن مدينته الرئيس عمر كرامي أكثر بكثير من تأثره بالتجربة الحريرية: خرج ميقاتي من السلطة أضعف مما دخلها، يرتبط أمله بالحفاظ على كرسيه النيابي باللواء المتقاعد أشرف ريفي، سواء ضمّه إلى لائحته أو توسط عند الرئيس سعد الحري
ري ليترك له كرسياً نيابياً. أما اليوم فلا أحد ينظر إلى الرئيس المكلف تأليف الحكومة تمام سلام نظرته المتفائلة السابقة إلى ميقاتي أو غيره. وفي حسابات أكثر السياسيين تفاؤلاً أن إنجاز سلام الرئيسي والأبرز سيكون نجاحه في تشكيل الحكومة وهو أمر، خلافاً لما توحي احتفالات نهاية الأسبوع، ليس سهلاً أبداً.
بدأ سلام علومه الابتدائية في «الليسيه» الفرنسية وأنهاها في «كلية فيكتوريا» المصرية. سياسياً، أسّس حركة «روّاد الإصلاح» عام 1974، وجمّدها عام 1975. تسلم جمعية المقاصد معافاة عام 1982 وسلمها منكوبة بالدين عام 2000. دخل المجلس النيابي عام 1996 وغادره دون أي أثر تشريعي بعد أربع سنوات. وفي 9 تشرين الثاني 2009 أعاد حقيبة الثقافة من دون أي تغيير يذكر كما تسلمها في 11 تموز 2008. ولا تلبث موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية أن تختصر طريق البحث عمّا يدفع 124 نائباً إلى تسمية سلام لتشكيل الحكومة المقبلة: هو ليس داهش عصره، ولا رفيق الحريري 1992 ولا إميل لحود 1998. تشير «ويكيبيديا» بعد اسمه، وقبل الإشارة إلى أنه عضو في المجلس النيابي حتى، إلى أنه نجل رئيس الوزراء السابق صائب سلام. يفرد كتاب «المعجم النيابي» عموداً لتمام سلام وخمسة أعمدة لوالده. كان صائب بيك، المتخرج في لندن في العلوم الاقتصادية مطلع الثلاثينيات، من أوائل السياسيين الذين تستوقفهم النقاشات الاقتصادية. نشط مبكراً في ماكينتي عمر بيهم ورياض الصلح الانتخابيتين. «مَشكَلَها» مع الرئيس بشارة الخوري، وكان هو من فتح أمامه أبواب السرايا التي ترأس حكوماتها سبع مرات، ومع الرئيسين كميل شمعون وفؤاد شهاب. يضمه عضو كتلة المستقبل النائب نهاد المشنوق إلى فئة رياض الصلح ورفيق الحريري في تصنيف سريع لرؤساء الحكومات اللبنانية. أيّد الرئيس أنور السادات في تصالحه مع إسرائيل في مرحلة كان الموقف السياسي يَرفَع ويخفض. أسّس وترأس شركة طيران الشرق الأوسط، حمل حقيبة الداخلية ست مرات ووزارة الدفاع ثلاث مرات والخارجية مرة. أما الدليل الرئيسيّ الأبرز على قوته فيختصر في تسمية ابنه لتشكيل حكومة، بعد أكثر من 10 أعوام على وفاته. تمام بيك عاش في حضرة صائب بيك 57 عاماً، تجمعهما في منزل المصيطبة عدة صور. وسمّى الرئيس المكلّف وحيده باسم والده، لكن تمام لا يشبه والده.
سياسياً لا تبدو طريق سلام معبدة، فما أشيع عن تسوية كبرى رعتها السعودية تنفيه المصادر الجدية، سواء في تيار المستقبل أو في التيار الوطني الحر، وتؤكد أن ما يحصل هو مجرد لعبة أملية ـــ اشتراكية، تحظى برضى سعوديّ وحريريّ وقبول حزب الله والتيار الوطني الحر. وفي تيار المستقبل يجزمون بأن رواية النائب وليد جنبلاط عن تسميته سلام هي القصة الحقيقية لاستعادة المصيطبة اسمها من حي اللجا، ناصحين المشككين بتصديق جنبلاط هذه المرة، لمرة واحدة فقط. وتلمح مصادر التيار الأزرق إلى أن الرئيس نبيه بري كان الدافع الفعليّ لصديقه الذي لم تعتر علاقتهما أي شائبة منذ أكثر من أربعة عقود، في ظل استحسان أوساط حركة أمل ما يقوله الوزير السابق وئام وهاب عن وجوب فتح الرئيس سعد الحريري بيته قبل فتح بيوت سياسية أخرى، في وقت تردد فيه الأوساط العونية، منذ ليل الخميس الماضي الحافل بالتسويات، أن بري، وليس السفير السعوديّ، هو الطباخ. ويؤكد أحد النواب العونيين في هذا السياق أن الرئيس نبيه بري تعهد في تلك الليلة بحفاظ تكتل التغيير والإصلاح على حقيبتي الطاقة والاتصالات، في ظل تخوف العونيين من أن يكون الخبر المسرّب في إحدى الصحف عن تجزئة وزارة الطاقة حقيبة للنفط وأخرى للطاقة بداية المس المنتظر بذلك الاتفاق، في وقت تؤكد فيه مصادر القوات أن الأولوية في الطبخ هي لقانون الانتخاب. ويشير أحد المطلعين على اللقاء الذي جمع البطريرك بشارة الراعي والرئيس فؤاد السنيورة والوزير السابق محمد شطح في بكركي أول من أمس (الذي طبخه النائب جورج عدوان) أن خمس دقائق فقط خصصت للحديث عن الحكومة الجديدة وسائر الوقت للحديث عن قانون الانتخاب. وبناءً على ما تقدّم، يكون الرئيس المكلف أمام ملفين، استغرق الرئيس نجيب ميقاتي نحو نصف عام لحل أولهما (تأليف الحكومة)، وهو الذي كان يتعين عليه إرضاء نصف من يستوجب على سلام استرضاءهم هذه المرة. وسبّب الثاني (قانون الانتخاب) تصدع تحالفات سياسية لم تقوَ قوة في العالم طوال سبع سنوات على زعزعتها، مع العلم بأن حزب الله فعل ما في وسعه لتيسير مهمة ميقاتي، باعتباره الأب الروحيّ لتلك المهمة. أما اليوم فلا يعرف عن أبوي الحكومة المنتظرة أي زهد أو تقشف، وليس بين القوى السياسية من يجد نفسه مضطراً إلى إرضاء سلام الذي رغم تفاؤل أصدقائه بقدرته على تدوير الزوايا، يؤكدون أنه ليس رجل مواجهة ولا خبط يده على الطاولة كما فعل ميقاتي أكثر من مرة. وبالتالي، رغم هتاف المصيطبة «ما بيصائب إلا أبو صائب»، لا ينعكس الإجماع المنقطع النظير على تسمية سلام لتشكيل الحكومة تفاؤلاً في ما يخص تشكيل الحكومة، خصوصاً أن لبيان الحكومة المقبلة بنداً رئيسياً واحداً بحسب قوى 8 آذار يتعلق بقانون الانتخابات.
وفي النتيجة يرث سلام بيتاً سياسياً مفتوحاً وحنين بعض الأمراء السعوديين ولقباً، إلى جانب علاقات خاصة عرف كيف يوطدها. يتيح كل ذلك تكليفه بتشكيل الحكومة، لكنه لا يشكل له الحكومة. عَجِز قبله كثيرون رغم فرصهم الاستثنائية وإرثهم الكبير عن ترك أثر. تحدّي ترك الأثر فشل سلام نفسه به حتى اليوم، وتشكيل الحكومة آخر فرصه.

السابق
التسوية الإقليمية الشاملة آتية
التالي
استغلال تامر في عمليات نصب