زمن التحريم والخطوط الحُمر

هل بتنا نعيش في زمن القرون الوسطى، زمن محاكم التفتيش، أو في زمن الحشاشين، أو في زمن الطغاة المستعاد، أم زمن التكفير، والتخوين، يسوده، ما يتعارض مع تقاليد هذا البلد، وتاريخه، ونضال شعبه، وصولاً الى ثورة الأرز، التي كسرت "محرمات" الوصاية بقمعها، وتهديدها، وممارساتها الترهيبية. كأن كل تطلع الى حرية الأفراد بات يهدد أصحابه بل وكل خروج عن الطغم المذهبية، والمرجعيات الغيبية، والمنصات الأمنية والمخابراتية، من عندياتنا، ومن عنديات ما خلّفته الوصايات "القاتلة" على امتداد قرابة نصف قرن. المخيف أن عبارة "خط أحمر" صارت من أكثر العبارات استعمالاً، يرافقها رفع الأصابع التوعدية، والسِّحن التي ينفر منها العنف، والكراهية، والترهيب. نتذكر أنه في أيام الانتداب السوري وضع خط أحمر برسم الرئيس حافظ الأسد. وأحياناً برسم صدام حسين. وأخرى برسم رستم غزالي أو زميله غازي كنعان وصولاً الى الرئيس المفدى إميل لحود الذي وضع "خطاً" أحمر يمنع رسم سحنته بالكاريكاتور! (إسألوا بيار صادق).
فيا للقداسة، ويا للحرص على جماليات البدن وتوازنه. وقبل هؤلاء كان التعرض لرئيس منظمة التحرير "خطاً أحمر" وإلاّ تدفق سيلٌ من التخوين والعمالة لإسرائيل الى آخر المعزوفة. وسلاح الثورة الفلسطينية كان خطاً أحمر أيضاً: التعرض له ولو في زواريب بيروت يعتبر "خدمة للعدو"! وفي زمن الميليشيات الطائفية صار كل "قائد" من هؤلاء في مصاف القديسين. محرم رشقه ولو بوردة، لأن من شأن ذلك تعريض "المجتمع المذهبي" هذا أو ذاك… للخطر! فوق النقد إذاً. وعندما هلّت بُدورُ حزب الله، خصوصاً بعد تحريره الجنوب، صار أمينه العام خطاً أحمر: أيّ نقد له (أو كاريكاتور) يعرض أصحابه ومؤسساتهم للعقاب إما بمحاولة حرقها (كما حدث في تلفزيون الجديد…!)، أو تهديده أو خطفه. خط أحمر جديد. وحزب الله أدرج في لائحة التقديس الولي الفقيه خامنئي: لأنه مرجع ديني! في منصب سياسي، ولا يجوز أيضاً الإشارة إليه إلاّ بمرافقة الآيات والشكران. خط أحمر أيضاً. ورث بشار والده، ورسم للجميع خطاً أحمر آخر. فهو في مصاف الأولياء، أعلى من أن يناله ما يعتبر مساساً بألوهية! (هذا ما كان عليه الأمر مع القذافي وصدام وبن علي ومبارك… أيضاً). والجيش السوري، تباعاً، أيضاً ورد في لائحة المحرمات، لأنه رمز الممانعة. فكيف يمكن أن تنتقد ممارسات جيش في لبنان (جولانه محتل ومهوّد بكل كرامة وعزّة وإباء)، إذا كان دخوله الى هذا البلد للدفاع عنه، وصون الوحدة الوطنية، والصمود والتصدي! رائع! وهذا يستتبع أيضاً سلاح المقاومة (حزب الله) حتى بعد التحرير. أوعى! كل كلمة لا تكيل المديح لهذا السلاح، حتى عند استخدامه في 7 أيار وفي الجبل ومع القمصان السود… يعتبر عمالة للعدو الصهيوني! ممتاز! حتى المتهمون باغتيال الحريري هم في مصاف "الأولياء" والقديسين، ولا يجوز لأحد لا أن يحقق معهم ولا أن يجلبهم للتحقيق. (فالقتلة أيضاً عند الحزب الإلهي آلهة) لا يرمون بدمعة من فرط ورعهم، وإيمانهم، ونظافة أكفهم من الدم. حتى محمود الحايك بقي فترة مصوناً وراء جدران القداسة: حاول اغتيال بطرس حرب وكاد يكون شهيداً من شهداء الجهاد أو من واجبات الجهاد! وهل ننسى ميشال عون الذي لم ينج أحد من شتمه حتى الشهداء والموتى، ها هو يرفع سلاح الدعاوى ضد كل من يستعير غيضاً من فيض لغته السياسية الرفيعة! فميشال عون أحمر بخط أحمر مع زيحين! وهل ننسى كيف صنّف حزب الله المجرم ميشال سماحة (قبل اعتقاله) عندما "حرّم" التعرض له؟ حتى ميشال سماحة أحمر بثلاثة خطوط حمر.
غابة من الخطوط الحمر، يمشي بينها اللبنانيون، من قيادات مذهبية (نظن أن بعضها يستحق السجن) ومن قيادات أخرى… لها في الفساد ما لأبي نواس في الخمرة!
هنا نقول للبنانيين: حطموا هذه الإشارات الحمراء الجهنمية الطغيانية، القامعة، البربرية الهمجية، بسطورها وبأصحابها لكي تبنوا وطناً حراً، حياً، مبدعاً، لا سقف فوق رؤوس أفراده سوى القوانين الوضعية والدولة!

السابق
لستَ وحدك
التالي
الى حزب الله: الثالثـة ثابتة