الإله يرقص أيضاً

مارثا غراهام موجودة في كل مكان. تشاركني شاشة هاتفي الذكي، تمدّ جسدها بسريالية عفوية فوق غلاف صفحتي الـ"فايسبوكية". أمارس معها وعبرها طقسي السرّي كل ليلة: شمعة تضيء عتمة الغرفة، موسيقى عشوائية (عدّة الرقص) وانبعاث خيالات جسد على جدران الغرفة. هو "الجسد الذي لا يكذب" يجعل من الرقص صلاة، والراقص إلهاً، تهمس لي.
ذكرى رحيل مارثا (كنت قد رفعت الكلفة بيننا منذ وقت طويل) صادفت قبل يومين (أول نيسان). أشعر أنها مناسبة خاصة. صحيح أنها تكبرني بأكثر من مئة عام، لكن يكفي أنها سيدة الرقص التعبيري ومُشعِلة حرائقه، لتعيش معي "زمني" الراقص.
هي لا تشبه راقصي "هارلم شايك" الذين تحدّوا بأجسادهم السلطة، ولا هي بفستانها الطويل وعقصة شعرها تحاكي شكل فتيات عربيات رقصن في الشارع مؤخراً، ثورة وغضباً… لكن الأكيد أن الاثنين هما امتداد لصرخة واحدة فجّرها الجسد.
عندما ابتكرت مارثا لغة جديدة للحركة، للتعبير عن العاطفة والنشوة والغضب، حرّرت الأداة (الجسد)… فاستخدم ثوار اليوم الأداة، ليقولوا ما لم تستطعه الكلمات.
كان لمارثا المولودة في بنسلفانيا الأميركية تأثير على الرقص، يحاكي تأثير بيكاسو على الرسم، أو فرانك لويد رايت على فنّ العمارة، وقد أسست بذلك مدرسة ألهمت أجيال عديدة من بعدها. كانت أول راقصة تدخل البيت الأبيض، وأول راقصة تمثل بلادها في الخارج كسفيرة ثقافية وأول راقصة تتسلّم "وسام الحريّة" الأميركي وأول راقصة يذيع صيتها حتى اليابان، فتتسلّم "الأمر الإمبراطوري للتاج النفيس"، لكن ليس ذلك ما أعطى مارتا سطوتها على مملكة الجسد.
هي عاشت في ظلّ حكم الكنيسة الصارم، لكنها آمنت بأن الرقص أمر حتمي لا مفرّ منه… هو ليس ممتعاً في كل الأوقات، مربك أحياناً، متعب كذلك… وأحياناً مخيف. إنه أشبه بـ"السلطنة" التي لا تحتمل الخفة… انصهار اللذة بالوجع.
عاشت مارثا 97 عاماً، أعادت خلالها تشكيل فن الرقص، بعيداً عن التسوّل العاطفي واللعبة الاستعراضية، وذلك في أكثر من 181 لوحة راقصة. جعلت الجسد عصياً على التدجين… هو قوت الحياة وقوّتها، و"لأنك فريد على هذه الأرض، فإن تعبيرات الجسد تصبح منفردة". هذا التفرّد كما تقول مارثا يحتاج إلى خبرة، كالحياة تماماً وكالثورة أيضاَ. يبدو سهلاً للوهلة الأولى، لكنه ليس كذلك.
يستغرق الأمر سنوات كي ينضج الجسد، ليكتسب لغة… وعنفواناً. حينها يتقن الراقص احترام معجزة التفاصيل المنسيّة، العظام الصغيرة مثلاً. يفعل ذلك مع ابتسامة، تصبح بمثابة تدريب على الحياة في لحظات الخطر. عندها فقط يختار ألا يسقط بملء إرادته، فيصح ما قالته مارثا بأن "الرقص هو تمجيد لمعجزة الخلق".
بعد أكثر من مئة عام ما زلت أقف أمام تلك الصورة، التي تلامس فيها صديقتي بجسدها السماء والأرض في آن. في انحناءتها وجع وغضب… سقوط نحو الأعلى. ترسم علامة سؤال أيضاً، النقطة فيها معلّقة في الهواء. لا هي تسقط فتنتهي، ولا تلتصق فترتاح.
ولأن القدر حِمْل مشترك، ولأن البؤس وباء مشترك، سنلف مارثا وأنا، بكل غضب الجسد، شوارع العالم. ندخل الحريّة، نمزّق الحريّة… نغتصب الحريّة.

السابق
سليمان واللاءات الثلاث
التالي
حكومة “المجدّرة المصفّاية”؟!