من «جهاد النكاح» إلى «نكح» الحضارة الإسلامية

كيف نفهم هذه الفتاوى الغريبة التي تنهال على رؤوس مليار ونصف مليار مسلم كل يوم: من إرضاع الكبير ومعاشرة الموتى، إلى نكاح الجهاد، وغيرها الكثير؟
ثمة طريقتان:
الأولى، أن نعتبر هذه التوجهات مجرد “طفح جلدي” على جسم الصعود الإسلامي الراهن، سرعان ماسيزول حين تستتب السلطة السياسية في يد قوى الإسلام السياسي.
والثانية، على العكس، تنحو إلى اعتبار هذه الفتاوى انعكاساً لتوتر وتخبط هائلين يغشيان الفكر السياسي الإسلامي الراهن، خاصة في ما يرتبط بعلاقة الجنس بالدين والسياسة بالشريعة.
كلا المقاربتين لهما منطقهما القوي.
فالتيارات الرئيسة في حركات الاسلام السياسي تقف بقوة ضد هذه الفتاوي، وتستخدم ضدها أسلحة الفقه والشريعة المستنيرة وآراء كبار علماء الدين. وهذا مايجعل أصحاب هذه الفتاوى يبدون ظاهرة محدودة أو معزولة في السياقات الإسلامية العامة.
لكن هنا تعترضنا مشكلة كبرى: هذه التيارات الرئيسة نفسها تميل إلى التحالف سياسياً مع هذه الأطراف في خضم معركتها للحفاظ على السلطة السياسية، حتى وهي تدين شطحاتها الفقهية. وهذا لايشمل نظريات جهاد النكاح ومعشرة الموتى وإرضاع الكبير وحسب، بل أيضاً عشرات ومئات الفتاوى الغريبة والمدهشة التي تطلقها بعض التيارات السلفية المتطرفة عبر أثير الفضائيات أو حتى في المساجد.

عند هذه النقطة، لاتعود الفتاوى الجنسو- سياسية ظاهرة عابرة، بل تتحوّل إلى انعكاس لحقيقة أكبر وأخطر بكثير هي غياب المشروع النهضوي- الفكري الإسلامي الحقيقي الذي كان سيجعل من هذه الفتاوى أمراً مستحيلاً.
لتوضيح هذه النقطة، فلنتذكر معاً ما كانت عليه الفتاوى خلال النهضة الإسلامية الليبرالية منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى مننتصف القرن العشرين. ففي تلك الحقبة، كانت كل الفتاوى التي تصدرها كل أو معظم المصادر الإسلامية تعج بقيم الحرية الإنسانية، وكرامة الفرد، وحقوق المساواة بين الرجل والمرأة، والتطابق الكامل بين الإسلام وبين مبدأ الحرية. وحتى مفهوم الجهاد (كما مع جمال الدين الأفغاني) كان يرتبط بهاجس الاثبات أنه يهدف إلى تحرير الأمة الإسلامية كي تصل إلى مرتبة قيم الحداثة والحضارة الغربيين.
الإسلام في تلك الحقبة كان ليبرالياً بالكامل. ولذلك، لم تبرز الترهات التي نرى الآن، والتي تجعل الدين الإسلامي نفسه مضغة سائغة للسخرية في كل أنحاء العالم.
أما الآن فلا أحد يستطيع أن يحدد بوصلة الفكر الإسلامي حتى لدى قوى إسلام سياسي أساسية مثل جماعة الإخوان المسلمين المصرية وحركة النهضة التونسية، على رغم كل الخطاب “التحديثي” و”الحضاري” الذي تتضمنه وثائق وبيانات قادة هاتين التيارين.
لماذا؟
لسببين:
الأول، وهو الذي أشرنا إليه، غياب المشروع النهضوي الحقيقي الذي كان يمكن أن يضع الأمور الفقهية والدينية والجنسية في نصابها الصحيح.
والثاني، أن حركات الإسلام السياسي المعتدلة والمنفتحة، منهمكة في السياسة إلى درجة أنها لاترى شيئاً من التمخضات العنيفة التي تجري حالياً في المجتمعات العربية سوى هوس السلطة وكيفية الحفاظ عليها. وهذه معضلة ستؤدي في استمرارها إلى فوضى فكرية وقيمية شاملة في هذه المجتمعات.

ماذا تعني كل هذه المعطيات؟
أمراً واحدا: الفتاوى الشاذة التي تشوّه الآن الصورة الحضارية للإسلام، هي بالدرجة الأولى مسؤولية التيارات الرئيسة في حركات الإسلام السياسي، سواء بما تفعل أو لاتفعل على صعيد الفقه والفكر الديني وربط السياسة بقيم الحرية والحداثة.
وهي مسؤولية لن تسفر عن ولادات مستمرة لفكرة “جهاد النكاح” وحسب، بل ستؤدي في خاتمة المطاف إلى “نكح” مفهوم الجهاد ومعه كل القيم الرائعة لحضارة إسلامية عظيمة كانت مرشحة في وقت ما لتكون هي قائدة الحداثة في العالم، كما كان يكرر دوماً المفكر هادجستون.

السابق
أمسية شعرية في صور لمناسبة يوم الأرض
التالي
عين التينة غدا