لا سقف ولا سياج

البلد بلا سقف وبلا سياج. كلما اختل التوازن الوطني واعتلّ الوفاق فقد لبنان دوره واستقراره. سياسة لبنان الخارجية تنبع من التوافق أو أنها تقود إلى النزاعات الأهلية. ليست المشكلة أن يكون للبنانيين آراء مختلفة في ما يدور حولهم، بل في أنهم يعتقدون عن وهم بإمكان إمالة الدفة في المنطقة. عملياً لا إقرار صادقاً بأن «لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه»، كما جاء في مقدمة الدستور. قفزنا من المشروع القومي الوحدوي إلى المشروع الإسلاموي، ومن الاعتراف بالحاجة إلى نظام مواطنة إلى نظام التوافقية الطائفية.
أعلن اللبنانيون عن حيادهم النظري تجاه الأزمة السورية. خدعوا أنفسهم وتورّطوا سياسياً ثم أمنياً. تصرفوا على أنهم شركاء في الحروب العربية ـ العربية. لكن ما تستطيع دول الخليج العربي أو مصر لا يستطيعه لبنان المتداخل في النسيج السوري الحامل لإرث علاقات عكرة لعقود طويلة. كان يحتاج إلى أعلى درجات ضبط النفس، وإلى رؤية تتجاوز المكاسب السياسية الطارئة من الانغماس في صراعات المنطقة.
استقالت الحكومة ولا أحد يفهم هذه الاستقالة خارج دائرة التطورات الإقليمية. في اللحظة الحرجة التي تتطلب الدفاع عن حياد لبنان انفتحت أزمة شرعية القرار اللبناني. أعطى الرئيس الأميركي إشارة انطلاق لتجميع الحلفاء وترميم الاختراقات على كل الحدود السورية، إسرائيل، الأردن العراق تركيا ولبنان. ثم جاء مؤتمر الدوحة. هذا الاستنفار الأميركي يمهّد لجولات أكثر شراسة من العنف في سوريا. بديهي القول إن أميركا تستنزف سوريا وحلفاء سوريا، ومن المبكر الحديث عن تسويات. الأميركيون لا يصنعون «مؤامرة». نحن لسنا في ديبلوماسية القرن التاسع عشر. الأميركيون لديهم مشروع معلن وحرب معلنة. لا شيء يخدم الأميركيين كما خدمتهم الأنظمة العربية. الحروب العربية ـ العربية المفتوحة منذ ثلاثة عقود. يكفي دلالة على ذلك تجربة الحروب اللبنانية المركّبة التي لم نتخلّص بعد من تداعياتها.
المنظومة الإقليمية المسماة «جامعة دول عربية» لعبت أسوأ الأدوار في تنمية الصراعات العربية وغطّت وسهّلت وشرعنت كل أشكال الاعتداء على الحقوق العربية. لنترك سوريا ومشكلات نظامها في تموضعه مع إيران أو في قهره لشعبه. هل ساهم العرب في التنمية المصرية أو في تنمية السودان أو حماية العراق الذي خاض وكالة عنهم الحرب ضد إيران؟ هل استطاعوا أن يزيلوا الاحتلال الإسرائيلي للبنان ويجنّبوا هذا البلد ما صار في ما بعد محل شكوى من النفوذ الإيراني؟
فعلاً لم يعد لدى الشعوب العربية أي وهم عن انبثاق سياسة عربية مشتركة تحافظ على المصالح الكبرى لهذه الشعوب. هذه المسؤولية مشتركة تضامنية بين ما كان يسمى أنظمة الاعتدال وأنظمة الممانعة. الممانعة التي تحوّلت إلى ما يشبه الانحياز إلى أحد معسكري الحلفاء ودول المحور في القرن الماضي. ممانعة استبدال وصاية بوصاية وحماية بحماية وتبعية بتبعية أخرى.
لن يقوم «مشروع عربي» إلا بفاعلية ومشاركة الشعوب نفسها. والشعوب لن ينقذها مشروع انتماء إلى معسكر دولي أو إلى منظومة إيديولوجية. هذه الحقيقة ظهرت جلية في قمة الدوحة التي بقي فيها موقع مصر العربي فارغاً. لم يحمل الإسلاميون إلى القيادة المصرية دوراً قيادياً. مصر التي ما زالت تحت سلطة الإسلاميين اليوم بعيدة عن المشاركة في صياغة دور عربي مستقل، بل على العكس من ذلك تبدو وكأنها أعلنت استسلامها لنظام الخليج العربي الذي يوسّع نفوذه بالمال ويحاول أن يبسط ثقافته الهجينة على المنطقة باسم هوية إسلامية. تتماهى مع سياسات الغرب ولا تستطيع أن تتعايش مع مكوّنات شعوبها متنوعة الثقافات الفرعية.
لبنان بلا سقف ولا سياج لم يعد القضية. المنطقة كلها بلا سقف ولا سياج تتلاعب بها السياسات الدولية والقوى الإقليمية التي تتقاطع وتتوافق على شيء أساسي هو منع الثورات العربية من أن تكون عربية وديموقراطية واستقلالية وتوحيدية. فهل يؤدي أمر العمليات الأميركي إلى مزيد من الفوضى الكيانية أم إلى حصرها اليوم في سوريا؟ الجواب ليس مطمئناً من عراق تحكمه قوى تابعة ونزاع أهلي ولبنان الذي تسيطر على مقدراته طبقة سياسية عبثية في التزام الوحدة الوطنية ومقتضياتها.

السابق
حذر عالمي بعد قرع طبول الحرب بين الكوريتين
التالي
تركيا دولة ثنائية القومية بعد اليوم