تركيا دولة ثنائية القومية بعد اليوم

المشهد سيستحق بعد خمسين أو مئة عام فيلما سينمائيا هوليوديا كبيرا: لقد وُضِع يوم الخميس 21 آذار المنصرم في ديار بكر حجرُ الأساس لأول قبول في جمهورية أتاتورك بالشخصية السياسية الكردية داخل تركيا الحديثة.

كان "التاريخ" يصهل في ديار بكر الأسبوع الماضي يوم عيد "النوروز" على غرار أحداث تحوّلت إلى منعطفات في تاريخ دول أخرى:
– مسيرة واشنطن للحقوق المدنية للسود في 28 آب 1963 التي ألقى فيها مارتن لوثركينغ خطابه الشهير: لديّ حُلم. هذه المسيرة التي ضمت حتى ذلك الحين أكبرَ حشدٍ شهدته العاصمة واشنطن والتي أصبح من المتَّفق عليه أنها ستمثّل بسلسلة المكاسب التشريعية التي دفعت نحوها نقطةَ انطلاقٍ نحو توسيعِ قاعدةِ الطبقة الوسطى الأميركية السوداء… طبقة وسطى صاعدةٌ لن يكون ممكناً بدونها بعد 45 عاماً وصولُ أوّلِ رئيس أسود للولايات المتحدة الأميركية هو باراك أوباما الآتي من صفوفها.
– إعلان إيفيان في 18 آذار 1962 الذي تم فيه الاتفاق بين الحكومة الفرنسية والحكومة الجزائرية الموقّتة على استقلال الجزائر الذي سيُعلن في 5 تموز من العام نفسه.
– مسيرة 16 حزيران 1976 في سويتو في جنوب إفريقيا الداعمة لإضراب طلبة المدارس في المدينة ضد إرغامهم على تعلّم لغةِ المستعمرين "الأفريكانرز" والتي سقط فيها عشرات الضحايا بنيران الشرطة والتي سيكون من شأنها تعزيز الحركة العالمية لمناهضة التمييز العنصري في جنوب إفريقيا والبادئة قبل ذلك في هيئة الأمم المتحدة.
هذه منعطفات كبيرة في تاريخ القرن العشرين وثقافته السياسية تخطت إطار بلدانها.
تجمّع مئات الألوف في ديار بكر صباح ذلك اليوم ليستمعوا إلى رسالة زعيم "حزب العمال" الكردي عبدالله أوجلان يتوجّه فيها على أساس اتفاق سياسي مع الدولة التركية – للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية – يتوجّه إلى مقاتلي حزبه داعيا إياهم للانسحاب من الأراضي التركية ومعلنا بدء مرحلة جديدة.
حين يصبح عبدالله أوجلان في هذا الموقع السياسي وباعتراف الدولة التركية نفسها – التي كان (ولا يزال قانونياً) عدوَّها الأول، فهذا يعني بدون أدنى شك أن حاضر ومستقبل تركيا بات حتى إشعار آخر تحت قيادة رجلين، واحدٍ في السرايا وآخر في السجن: رجب طيّب أردوغان وعبدالله أوجلان. وبات بالتالي باستطاعة كلٍّ منهما أن "يفاوض" بعد الآن باسم تركيا المعاصرة التي تحوّلها الشحنة المعنوية العميقة لخطاب وتظاهرة دياربكر إلى دولة ذات ثنائية قومية تركية وكردية.
بطبيعة الحال علينا أن ننتظر مفاجآت كما حصل في كل المنعطفات الصعبة التي شهدتها فرنسا حيال الجزائر وواشنطن حيال مسألة الحقوق المدنية للسود الأميركيين أو جنوب إفريقيا حيال مسألة إلغاء التمييز العنصري. وكلها منعطفات نستطيع اعتبار الدرس التاريخي الأول فيها ومنها هو بروز قوى مضادة من داخل مؤسسات الدولة تحاول وقفَ التغيير التاريخي… مقاومة للتغيير أخذت أشكالا مختلفة من الاغتيالات ومحاولات الانقلاب.
التحوّل التركي شَهِدَ أصلا بمجرد انتشارِ – الأدق تسرُّبِ – خبرِ الاتفاق عن بدء المرحلة السلمية بين أردوغان وأوجلان عمليةَ اغتيالٍ ثلاثيةً في باريس لبعض أبرز الوجوه النسائية في حزب العمال (PKK). العملية خاضعة لتفسيرات عديدة ومتضاربة لكن الأمر الأكيد هو أنها نتيجة مباشرة من نتائج المخاض الجديد. وسيكون علينا انتظارُ مفاجآتٍ دراماتيكيةٍ أخرى من داخل تركيا أو خارجها في هذا السياق كما أشار رجب طيّب أردوغان في هولندا الأسبوع المنصرم.
لم "تهضم" المعدة التركية بعد حدث ديار بكر من حيث هو جوهريا أول إعلان واقعي بالثنائية القومية للجمهورية التركية، ولم يصبح رجب طيب أردوغان شارل ديغول المسألة الكردية فلا تزال الطريق أمامه طويلة جدا سواءٌ من حيث مدى استعداده الشخصي لتحمّل مسؤولية هذا التحوّل والأهم مدى قابليةِ الدولة التركية لقبول هذا التغيير الراديكالي في الشخصية والثقافة السياسيّتين في جمهورية مصطفى كمال أتاتورك.
بعد دياربكر صار هناك مكانان فعليّان لـ "التفاوض" الداخلي والخارجي حول الوضع التركي: سرايا أنقرة وسجن "إمرلي". صحيح أن بعض المعلّقين الأتراك يُسمّي ما حدث سيرا نحو "حلف استراتيجي" بين "حزب العدالة والتنمية" (AKP) الحاكم وبين "حزب العمال" غير أن المسار ومجازفاته أكبرُ بكثير من حيث حصرُه وحصرُها بأحلاف سياسية.
لم تنجح الحداثة التركية في جمهورية أتاتورك في دمج "الأكراد" ضمن الشخصية القومية التركية على الرغم من أن تاريخ الجمهورية مليء بنجاحات شخصية لأكراد في أعلى سُلّمِ الدولة التركية وبينها رئاسة الجمهورية. فـ"العَرْضُ" الذي كانت المؤسسة السياسية تقدّمه للأكراد هو المساواة في المواطنية كأفراد وليس المساواة في القومية أي بدون اعتراف قومي بالشخصية الكردية.
فشل هذا الحلُّ التركيُّ وتوقفت مسيرةُ التحديث الديموقراطية والاقتصادية في تركيا أمام الحائط الكردي… وكان لا بد لأردوغان من التغيير – ولو متأخِّراً – مع ما أسميناه "ابتسام الجيوبوليتيك" في كل المنطقة للأكراد ولاسيما بعد انفجار الثورة – الحرب في سوريا.
تغييرٌ كبيرٌ جدا. ومن البداهة الشديدة القول أنه محفوفٌ بالمخاطر بل هو مهدَّد.

السابق
لا سقف ولا سياج
التالي
قلق من ارتفاع نسبة اغتصاب النساء في مصر