الطائف.. حساسيات الطوائف

يتراشق السياسيّون بمسلّمات مختلفة من وحي الدستور بعد اتفاق الطائف. تُشدّد فئة منهم على ضرورة تطبيقه، وترى أخرى أن الحاجة باتت ملحّة إلى تخطّيه. في الواقع، إنّ النقاش حول هذا الاتفاق في صلب بناء الدولة المدنيّة، وهو من المحرمات التي يجب كسرها على هذا المسار.
هل فقد الطائف وظيفته؟
عدّل اتفاق الطائف بعض الوظائف الأساسية في الانتظام الشكلي السابق للدولة. في الأساس هو لم يكن جهداً دستورياً، بل عبارة عن توافق سياسي. فعندما توجّه النوّاب إلى المدينة السعودية، رعاهم السوري، السعودي والأميركي. كان التشاور بين رعاة الاتفاق يسبق كلّ تعديل يطرأ على جملة أو تعبير معيّنين، ما أدّى إلى إدراج تعابير غامضة ومتناقضة مع روح الدستور أساساً. فالقول مثلاً إن «لبنان وطن نهائي» يُثير استغراباً حقيقياً: هل هناك بلد في العالم ينص دستوره على عبارة كهذه؟ إنّ مجرّد ذكرها يفترض أن الوضع يُمكن أن يكون غير ذلك.
كذلك فإنّ الحديث عن «صيغة العيش المشترك» لا معنى له ولا مكان له في سياق دستوري. العيش المشترك بين من ومن؟ بين المواطنين؟ افتراض كهذا لا يوضع في دستور، بل في بيان سياسي أو لإعطاء حق الفيتو لمجموعة معينة في إطار تركيبة فدرالية.
من بين الإضافات الأبرز إلى الدستور كلمتا «مسيحيون» و«مسلمون». وهنا تناقض عجيب، لأن الطوائف كيانات تُنشأ بقانون. وحتّى على مستوى التعبير، ليس هناك طائفة مسيحية وأخرى مسلمة، بل 18 طائفة. إضافة إلى ورود عبارة «عائلات روحية» الشاعرية في سياق الحديث عن مجلس الشيوخ.
هذا يعني أنّ بياناً سياسياً حُشر في الدستور، وهو يعبّر عن عقد معين. وبالتالي عانى النصّ، ولا يزال، إرباكات جعلته هجيناً وغير قابل للتطبيق وغير متطابق مع نفسه. في المبدأ عندما تُضيف إلى الدستور جديداً، عليك تعديل ما يتضمنه من مواد مرتبطة بالموضوع ذاته، أو تحديد مراتب ضمن النص.
هكذا يكون اتفاق الطائف ترتيباً سيّئاً أدّى إلى حشر شعارات سياسيّة ناتجة عن توافق على إيقاف الحرب؛ تلك الشعارات غريبة عن النص الدستوري.
في الممارسة، ثبّت «الطائف» الطابع «الطائفي» للدولة. فالنص الدستوري قبل الطائف لا يذكر أبداً الطوائف في مجال التمثيل السياسي؛ وإن كانت الاعتبارات الطائفية حاضرة في الممارسة، في حصص التمثيل في مجلس النواب أساساً، فهي لم تدخل متن النص الدستوري إلا في الطائف.
في واقع الحال، تُرجم الاتفاق بتخصيص طوائف ترأسها قوى سياسية محددة بمواقع وأجزاء معينة من الدولة هي عبارة عن إقطاعات. نتجت عن هذا الأمر قدرة على الفيتو (التعطيل المتبادل)؛ تلك القدرة كانت على الأرجح شرطاً لإقناع زعماء الميليشيات بالدخول في اللعبة، فهم قايضوا سلطتهم الميليشياوية بوضع يدهم على إحدى وظائف الدولة.
إنما في المقابل، لم يكن هناك إمكان لعمل النظام إلا إذا سلّم هؤلاء جميعاً دور الحكم لجهة معينة خارجية. وبرضى إقليمي كان دور الحكم فيه للمسؤولين الأمنيين السوريين، لكن مع تغيّر الترتيبات الإقليميّة رحل هؤلاء وتعطّلت الآلية. الطائف معطل كتنفيذ بغياب الحكم الخارجي.
هل يُمكن تجاوز حساسيات الطوائف الآن؟
علينا أن نطرح سؤالاً اعتراضياً: هل هناك طوائف، هي عبارة عن كيانات مستقرة تاريخياً واجتماعياً، فاوضت بين بعضها بعضاً لإنشاء دولة؟ إذا كان الجواب نعم، يُمكن الحديث عن عيش مشترك وحوار حضارات، وفعلياً عن فدراليّة.
لكن التحليل العلمي يفرض علينا مساراً آخر في البحث. فغالبية الناس الذين كانوا يعيشون في بقعة لبنان عند ترسيمه كانوا مزراعين في مناطق هامشية وجبلية ضمن السلطنة العثمانيّة. وطوال تاريخ طويل لم تكن السلطة المركزية تجد مصلحة لها في إدارة شؤونهم على نحو مباشر وتكليفهم لرفد ماليتها؛ تلك الجماعات كانت ثانوية جداً في الرقعة العامّة، فتركتهم السلطنة يتولّون أمورهم لأن كلفة إدارتهم أهم من مردودهم، وهم لا يمثلون خطرا، وإن مثلوا تستطيع قمعهم بسهولة. وبالتالي فإنّ علاقتهم بالسلطة الأساسية مخالفة لعلاقة المدن وسكانها بها.
طوائف لبنان تُشبه عشائر البدو والأكراد. هي صيغ سياسية واجتماعية مماثلة لمجموعات لا تُمثّل أولوية للسلطة المركزية، التي تتركهم يتضاربون إجمالاً وتراقبهم من الخارج. تفتقر تلك الفئات إلى مراكز السلطة المدنية في قلب الحكم المركزي، وبالتالي تحافظ على علاقاتها الاجتماعية الأساسية لحماية نفسها.
من وجهة النظر هذه، تظهر الطوائف على أنها استبقاء لعلاقات عائلية شديدة في مجتمعات لم تنخرط في قلبها السلطة المركزية الخاصة بالدولة مباشرة.
إذا لم يكن هناك من جرأة لإنشاء إطار جامع في العمق، أي دولة، يبقى المشهد على حاله. وممّا شهدناه في لبنان في مرحلة الستينيات والسبعينيّنات ـــ ازدياد النزوح من الريف وارتفاع نسبة التعليم ـــ كان واضحاً أن العصبية الطائفية بدأت تتلاشى. غير أنّها لم تلبث أن اشتدت عندما انهارت الدولة واستعاضت المجموعات عن حماية الدولة بالأطر المذكورة وتحديداً في مرحلة الميليشيات والحرب في الثمانينات، وترسخت باتفاق الطائف.
هناك مقاربتان لتحليل الحساسيات الطائفية: إما أن الطوائف كيانات دائمة وثابتة تفاوض لإنشاء دولة بينها، أو أن الطوائف أخذت تتعزّز بسبب انحلال موقع الدولة.
هاتان المقاربتان مهمتان جداً. حتّى إنّ التعبير باستخدام كلمتي مسلمين ومسيحيين يوحي بأن هاتين الكتلتين مكوّنتان على أساس عقائدي وفلسفي؛ والواقع ليس كذلك. إن إقامة الدولة الفعلية توحى للناس بالطمأنينة وتُعفيهم من المبرّرات الفعلية والمادية، لا الإيديولوجية فقط، للانتماء إلى الطوائف بغية تأمين الوظيفة والحماية من المخاطر الخارجية والداخلية وتوزيع الخدمات وما إلى ذلك.

السابق
عريضة التمديد دستورية
التالي
مليون دولار لجيمس بوند في دقائق