دروس كئيبة في رئاسة الحكومة

لم يفعل نجيب ميقاتي غيرَ ما يفعله سياسيّون لبنانيون كل يوم: الالتحاق بركب العصبية السياسية للطائفة التي ينتمي إليها فلا يتعرّض إلى المصير الكئيب الذي تعرّض له الرؤساء سامي الصلح عام 1958 ثم ما تعرّض له بعد ربع قرن صائب سلام وكامل الأسعد وشفيق الوزان(بضغط من حافظ الأسد)… مما أدّى إلى خروجهم تباعا من الحياة السياسية أي إلى "موتهم السياسي".
كل الذين حاولوا من السياسيين التصدّي لضغوط شوارعهم والسير عكس شعاراتها كان مصيرهم كئيبا.
نجيب ميقاتي سياسي شاطر، بعد نجاح عملاقي إلى جانب شقيقه في مجال الاستثمارات، لديه مشروعُ أن يكون لأطولِ فترةٍ ممكنةٍ رئيساً للوزراء فنجح في استثمار الظرف عام 2010 و"خَطَف" رئاسة الوزارة من آل الحريري الذين بلغت بهم حالة نجاحهم التأسيسي في الشارع السُنّي أنه صار من الصعب عليهم قبولُ شخص آخر "غيرهم" في رئاسة الحكومة.
يلعبها نجيب ميقاتي من باب السلامة: فينتظر لحظة إشارة من المراجع الدولية (بريطانيا، واشنطن، فرنسا) ويهرب من هذه المهمة الصعبة بعدما بلغ الصراع في سوريا والمنطقة سخونة عالية، مُنقِذاً سمعته الطائفية والطرابلسية وحامياً لمصالح عائلته الضخمة في الخارج… دفعةً واحدة.
شاطر نجيب ميقاتي: لا مجازفة أو بكلامٍ آخرَ الإفلات من المجازفة دفعةً واحدة…
والأمثولات اللبنانية تجعل في نظر "الشُطّار" أيَّ شيء في السياسة اللبنانية لا يستحق المجازفة. فمن الذي لا يلعبها طائفيا لكي يرمِيَه بحجر؟ نقطة ضعف الميقاتي في هذا السجال أنه جاء إلى رئاسة الحكومة عبر انقلاب برلماني بدعم من أخصام شارعه الطائفي والقوى الممسكة به ولكنه أفلت في نظر نفسه في اللحظة المناسبة فنفّذ انقلابا على الانقلاب بدعم السفارات الدولية المعادية للعواصم التي جاءت به وآثر الانسحاب في لحظة تأجّج الصراع على وداخل سوريا. ربما بإمكانه سراً إن يهمس في آذان الذين يوصلون الهمس إلى دمشق أنه لن يفيد 8 آذار ومراجعها الخارجيين إذا تحوّل إلى رئيس حكومة فاقد للشرعية المذهبية كما باستطاعته أن يسوّق نفسه لدى 14 آذار والأهم لدى مراجعها الخارجيين أنه يمكن المراهنة عليه لتعطيل مخططات الخصم في أقل تقدير.
لنسْتَعِدْ بعض الحالات – العِبَر في ماضينا القريب:
ريمون إده الشعبوي المنتصر ضد الشهابية في انتخابات 1968 بصفته إلى جانب الرئيس كميل شمعون وبيار الجميل فرسان الشارع الماروني وليس ريمون إده المنفي والمعزول في باريس عام 1976 بعد أن وَقَف في وجه الشارع الماروني.
كمال جنبلاط وبعده وليد جنبلاط والرئيس أمين الجميل وسمير جعجع وميشال عون أبطال شوارعهم الغاضبة أم قبل ذلك رشيد كرامي أعوام 1958 و1968 و1975 وسليم الحص عام 1978 عندما بدأت خلافاته السياسية الناتجة عن الانقسام اللبناني الحاد مع الياس سركيس الذي أتى به رئيساً للوزراء على أساس أنه "غير مسيّس"؟
أين هو الدرس الذي يأتي ضد الشارع الطائفي في الطائفة التي ينتمي إليها السياسي… الدرس الذي يستطيع إقناع أمثال نجيب ميقاتي… بعدم الالتحاق أو بعدم الظهور بمظهر الملتحِق بهذا الشارع وهو الذي كان "ابتكر" أصلاً صيغة علاقة مع التيارات السلفية في مدينته طرابلس جعلته عملياً أحد "زعماء" التيار السلفي أو أحد المؤثرين فيه حتى في بعض الميليشيات المسلّحة التي تقاتل في و من باب التبانة. مع رجاء أن يكون تأثيرُه هذا عاملَ دفعٍ للسلفيين نحو الاعتدال و قابليةٍ أكثر للانضباط بالسلم الأهلي؟
في السياسة السياسية اللبنانية فعل الميقاتي ما يفعله الآخرون. لا ترمِه بحجر في النظام اللبناني. برافو بما هو البلد شوارعُ وطائفياتٌ وليس دولةً آخرُ من يتحمّل مسؤولية تمادي ضعفِها وهشاشتِها هو هو…
هذا المقال ليس عن نجيب ميقاتي بل عن النظام الطائفي لكي تكون حادثة "هَرَب" الميقاتي من رئاسة الحكومة الدرسَ الرائعَ الجديد الذي يجب أن يذكِّر بالمصير البائس للذين خالفوه أي خالفوا هذا الدرس. درسُ أن السياسيَّ الذي يصطدم بمشاعر وشعارات شارع طائفته، مهما كانت متطرّفة، مصيرُه الموت السياسي في نظام طائفي. فلا رجال دولة في هذا النظام بل رجال طوائف في الدولة، وأن هذا النظام يكافئ الطائفيين كلما ازدادوا طائفية في كل الطوائف ذات العصبيات السياسية بلا استثناء. ولهذا سيظل نجيب ميقاتي مرشّحاً جدّياً لرئاسة الحكومة.
مرةً أخرى تدفعني مناسبة هذه العُجالة لتذكير رئيس "حكومة طرابلس" المستقيل أنه اقترف خطأ رئيسيّاً في الشمال (خطأ سبق أن ارتكبه رفيق وسعد الحريري) سيطبع كلَّ عبورِه في الحياة السياسية وهو إهماله لأولوية إحداثِ ما أسمّيه "صدمة إنمائية" كبرى (أو صدمات إنمائية) لمدينة طرابلس ومحيطها المسلم الشمالي حتى عكّار حيث نسبُ الفقر العالية جدا.
طبعا لا حاجة للتكرار أنني أعرف أن مساهماته الخيرية في طرابلس كبيرةٌ طبعا، ولكن عليه أن يقتنع إذا كان يريد أن يترك إسمه كأكثر من مجرد سياسي "شاطر" عابر، أن "الاقتصاد الخيري"، كما ردّدنا مراراً، لا يصنع تنمية حقيقية بدليلٍ يعرفه أكثر من غيره وهو ازدياد أعداد الفقراء في طرابلس (وهو يعرف مثل أهل طرابلس – ومناطق لبنانية في أخرى – المتداول عن أين بلغ "سعر" الاستخدام "الأمني" الزهيد لأفرادٍ في أزقّة العاطلين عن العمل). ولهذا كان عليه (وعلى غيره) في رئاسة الحكومة رعاية اسْتحداثِ مشروعٍ إنمائيٍّ كبيرٍ في المدينة يؤمّن آلافَ الوظائف… يبدو أنه لا زال "لم يعثر على فكرته" كما قال لي مرةً. الفكرة الكبرى التقليدية موجودة بعد "موت" مصفاة النفط وهي مطار القليعات. صحيح أن الظروف الأمنية الآن على الحدود مع سوريا تبدو غير مؤاتية لكن من قال أن مشروعا من هذا النوع أو غيره لا يدفع أو لا يساهم في إحداث اهتماماتٍ مصلحيةٍ أخرى أو "اقتصادٍ" آخرَ في تلك المنطقة غيرِ اقتصاد الحرب السورية المزدهر و"المزدهرة"؟

السابق
بلغاريا ستزود الاتحاد الاوروبي بأدلة جديدة ضد حزب الله
التالي
بريكس قلقون من الوضع السوري