كلهم حريريون

الحريريّة صفة لبنانيّة.
حسب علمي، لم يعبّر أحد عن هذا الواقع قبل رشا أبو زكي، ولا بالدقّة التي صاغتها بها في مقال لها على موقع «المدن» الالكتروني تحت عنوان: «كلّهم حريريّون». (الحريريّة كرمزٍ للخصخصة والفساد وهدر المال العام وتغليب الأرباح الريعيّة على الأرباح الإنتاجية، وغيرها ممّا كان «يرفضه» معارضو الحريريّة).
يشرح مقال رشا أبو زكي كيف تداخلت المصالح بين فريقي 8 و14 آذار «إلى حدّ الانصهار»، وكيف أنّ سياسة التيّار العوني الإصلاحيّة والتغييريّة تكاد تنحصر في مناوأة الهيمنة السنيّة على إدارات الدولة من أجل «وصول التيّار إلى هذه الإدارات كممثل «شرعي» عن المسيحيين. (…) وأسقط التيّار من أدبيّاته فكرةً أساسيّة هي أنّ كلّ حلفائه كانوا جزءاً من حكومات الحريريّة».
وتختم مقالها بالقول: «اليوم كما أمس كما في المستقبل، العونيّون كما حركة أمل وحزب الله والمردة والاشتراكي، كذلك الأحزاب اليساريّة الصامتة عن كل ما يحدث… كلّهم حريريّون».
قبل نصف قرن أطلق الرئيس فؤاد شهاب على السياسيّين تسمية «أَكَلَة الجبنة». اليوم، بعدما تطوّرت بشكل فلكي أساليب النَصْب والنهب، لم تعد عبارة شهاب كافية. لم يعد هذا أكلاً ولا هذه جبنة، بل أضحتْ وليمة سوداء مشكّلة من قلوب الفقراء وجماجم أولادهم.
صفّقتُ لرشا وأنا أطالع مقالها هذا ثم جميع مقالاتها في «المدن». كيف يَظهر صحافيّون بعد بهذه الطهارة في لبنان؟ في لبنان المنخور حتّى الروح بالإفلاس والرشوة والإرهاب؟ في لبنان المَغاور؟
مقالاتٌ من هذا النوع حبّذا لو يقرأها الضحايا، أوّلاً ليعرفوا، ثانياً لتغتسل عيونهم من غبار التضليل اليومي والتعبئة الطائفيّة والمذهبيّة. هناك صحافتان اقتصاديّتان: واحدة تتوجّه بتعليمات مراكز القوى الماليّة التي تموّلها، وثانية مسلوخة من الواقع. الأولى هي الأعمّ، تتوسّل الرصانة الكاذبة لتسويق شهادات الزور، أو التنظير الأكاديمي لتغطية الهروب من المشاكل الحقيقيّة، وكلّها يقتضي علاجها حلولاً ثوريّة هي العدوّ الأساسي لمراكز القوى الماليّة وأنظمة المافيا المتحكّمة في حياة الناس كمّاً ونوعاً.
مقالات من صنف «كلّهم حريريّون» أرقام صارخة ونظرة عادلة إلى الواقع العاري، بنبض حيويّة التمرّد ورفض الانخداع بالمهدّئات والإرهابات.
مثل هذه المقالات لرشا أبو زكي، سابقاً في «الأخبار» وراهناً في «المدن»، ينابيع نقيّة. صفاءٌ غريب وسط هذا المحيط من العَكَر.
«اليوم كما أمس كما في المستقبل… كلّهم حريريّون». فضائحنا هي فضائح بالجملة، دون تمييز. هكذا كنّا منذ صارت بيروت هي لبنان. هكذا كنّا تحت الانتداب، وفي 1958، و1975، وتحت النظام السوري، وبين سنّة وشيعة. عندنا مَن يعارض ليجلس محلّ الجالس ويأكل مثله وأكثر منه. عندنا لصّ جائع يتربّص باللصّ الشبعان. «كلّهم حريريّون».
تحيّةً لرشا أبو زكي الصبيّة الشجاعة. عَجَباً لكِ كيف لم تستسلمي كالآخرين لفلسفة الرابطة الحريريّة الكونيّة العاملة ليل نهار على إقناع الفقراء بأنّهم سعداء!  

السابق
فرصة؟
التالي
زيارة أوباما.. طبخة لن تنضج