الجمهورية: الإستقالة تُطلق العد العكسي للمشاورات سريعاً لان وضع البلاد دقيق

أهمّ ما في استقالة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أنّها كسرت الجمود الذي كان يخيّم على الحياة السياسية ويدفع البلاد رويداً رويداً نحو الفوضى واللاستقرار، وفتحت الباب أمام مرحلة جديدة يتحمّل فيها كلّ طرف مسؤولية عدم تعاونه لصياغة تفاهم وطنيّ ينتح حكومة تشكّل شبكة أمان للبنان واللبنانيّين

نجح ميقاتي في إعادة خلط الأوراق السياسية، وبرهن أنّ استقالته في جيبه وليس بيد "حزب الله" أو غيره، وأثبت أنّ الثلاثي الوسطي المكوّن من رئيس الجمهورية ميشال سليمان ومنه ومن النائب وليد جنبلاط يشكّل قوة لا يمكن الاستهانة بها، خصوصا أنّ سليمان كان مهّد لاستقالة ميقاتي برفضه ترؤّس أيّ جلسة لمجلس الوزراء في حال عدم إقرار هيئة الإشراف على الانتخابات.

وقد أراد ميقاتي باستقالته بعث أربع رسائل سياسية: الأولى إلى المجتمع الدولي بأنّه يرفض تحمّل مسؤولية عدم إجراء الانتخابات في موعدها ويتمسّك بإتمام الاستحقاق الدستوري، خصوصاً بعد أن لمس محاولات تطيير الانتخابات. والثانية إلى المجتمع العربي بأنّه يرفض أن يكون لبنان طرفاً في النزاع السوري ويتمسّك بسياسة النأي بالنفس، هذه السياسة التي تمّ خرقها ميدانيّا وديبلوماسيّا، وأبدى مراراً انزعاجه من تحميله هذه المسؤولية أمام الدول العربية. والثالثة إلى اللبنانيين بأنّه يرفض أن تنزلق البلاد إلى الحرب الأهلية إبّان حكومته، وتحميله مسؤولية تغطية الحرب الجديدة. والرابعة إلى بيئته السنّية بأنّه لم يخلّ بأيّ تعهّد حيالها من التمسك بصلاحيات رئاسة الحكومة إلى المحكمة الدولية، وما بينهما المواقع الإدارية والأمنية، وآخرها تمسّكه بالتمديد للمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي.

ويبدو أنّ فريق 8 آذار أخطأ التقدير هذه المرّة، إذ بدلاً من أن يأخذ في الاعتبار الوضع الحرج لرئيس الحكومة على المستويات الأربعة المشار إليها، ذهب باتجاه المزيد من إحراجه، معوّلاً على استمراره في موقعه، هذا الاستمرار الذي بات يشكّل مقتلاً بالنسبة لميقاتي ومستقبله السياسي. فسياسة الإحراج أدّت في نهاية المطاف إلى إخراجه من الحكومة حرصاً على البلد ورصيده السياسي.

فكلّ ما كان يفتقد إليه ميقاتي هو استعادة مشروعيته داخل بيئته، كونه يحظى بالثقة الدولية المطلوبة، وبالتالي استقالته ستشكّل مدخلاً باتجاهين: التوافق داخل الطائفة السنّية على تسمية رئيس للحكومة، فتكون تسميته، في حال تمّت هذه المرّة، بغطاء سنّي، والتوافق الوطني على تشكيل حكومة تعكس حقيقة التوازنات القائمة.

وما لم يتنبّه إليه فريق 8 آذار أيضاً أنّ رئيس الجمهورية يدخل في أيّار في العام الأخير من ولايته الرئاسية، وبالتالي سيسعى جاهداً لإعادة إطلاق الحوار السياسي وتشكيل حكومة توافقية تتيح له تسليم خلفِه جمهورية موحّدة بالحدّ الأدنى، لا مفكّكة الأوصال.

ومن الواضح أنّ المجتمع الدولي الذي يحرص على استقرار لبنان، وكان حوّل هذا العنوان إلى أولويته المطلقة، سيدفع في المرحلة المقبلة باتجاه التوافق، خصوصاً أنّ أيّ توافق من هذا النوع يعني التزاماً فعليّاً لا شكليّاً بسياسة النأي النفس.

فالاستقالة، وبخلاف النظريات التشاؤمية، خطوة نحو المعلوم لا المجهول، ولا بل استمرار الحكومة كان سيقود البلاد نحو المجهول. ويبقى السؤال: ماذا بعد هذه الخطوة التي شكّك كثيرون في إقدام ميقاتي عليها؟ هناك مسارٌ دستوريّ كلاسيكي يتمثل بالمشاورات النيابية لتكليف رئيس الحكومة العتيد، ومسارٌ سياسيّ بدأ فور إعلان الاستقالة، وذلك في موازاة تصميم رئيس الجمهورية والمجتمع الدولي على الإسراع ما يمكن لتشكيل حكومة جديدة تجنّب لبنان تداعيات الفراغ.

تحذير من تدهور الأوضاع

وعلمت "الجمهورية" أنّ تقارير ديبلوماسية عدة وردت الى كبار المسؤولين عن تحذير من تدهور الأوضاع الأمنية في لبنان، وأنّه سيعيش في المرحلة المقبلة أياماً صعبة.

وفي حين نقل مراسل "الجمهورية" في واشنطن عن مسؤول كبير في وزارة الخارجية الأميركية أنّ المسؤولين الأميركيين اطّلعوا على استقالة رئيس الحكومة اللبنانية وهم بانتظار موقف رئيس الجمهورية، لجهة قبوله أو رفضه الاستقالة"، يتوجه رئيس الحكومة المستقيل الى بعبدا اليوم ليقدّم استقالته رسميّاً إلى رئيس الجمهورية، الذي لا يستطيع دستورياً رفضها إذا أصرّ رئيس الحكومة على موقفه، فيَصدر بيان عن مديرية رئاسة الجمهورية بإعلان الحكومة مستقيلة وتكليف رئيس الحكومة بتصريف الأعمال.

وبعدها تبدأ المشاورات بين الكتل النيابية والمرجعيات السياسية، ويُنتظر عودة سليمان من مشاركته في القمّة العربية في قطر التي تبدأ أعمالها الثلثاء المقبل، ليدعو الى الاستشارات النيابية الملزمة، ورجّحت المعلومات أن يتمهّل الى ما بعد عيد الفصح ليدعو اليها.

لكنّ قريبين من سليمان أكّدوا لـ"الجمهورية" أنّه يستعجل تطبيق المسار الدستوري بعد استقالة الحكومة لأنّ وضع البلاد دقيق ولا يحتمل الفراغ.

ورأت مصادر رئاسة الجمهورية أنّ السؤالين الكبيرين اللذين يفرضان نفسهما بقوّة اليوم هما: ما هي هوية رئيس الحكومة الجديد ونوعيّة هذه الحكومة؟ وقالت إنّ البلاد تمرّ باختبارات صعبة، ولبنان لديه وضع خاص ويعلم الجميع انّه لا يمكن ان يكون فيه غالب ولا مغلوب، وهو لا يتحمّل في هذه المرحلة الفراغ. وإذ أكّدت على استمرار مفاعيل القرار الدولي بضرورة الحفاظ على استقرار لبنان وتحييده عن الأحداث في محيطه، حذّرت من التوتّر الإقليمي الذي لا يمكن أن يبقى لبنان بمنأى عنه. ولفتت الى أنّ المسار الدستوري واضح لكنّ التفاصيل ضبابية، فكلّ الأحداث حطّت دفعة واحدة، من استقالة وتكليف وتأليف ومشاورات، وهو المسار الذي اعتاد أن يستنزف الدولة اللبنانية لشهور، إلى الأحداث الأمنية المتسارعة.

ميقاتي اختار التوقيت

وقالت مصادر وزارية واسعة الاطّلاع لـ"الجمهورية" إنّ ميقاتي هو من اختار توقيت الإستقالة التي كان ينوي القيام بها من قبل، وتحديداً منذ أن تبلّغ مواقف نهائية من موضوع التمديد لريفي وقضايا أخرى تتصل بعمل الحكومة، ما يجعلها رهينة الأكثرية التي لم تعد تسأل عن شيء لقاء مصالح آنيّة من دون احتساب الحصيلة النهائية المتوقّعة لتطوّرالأحداث في المنطقة، وما يمكن أن تعكسه على الساحة الداخلية.

ولفتت الى أنّ الإستقالة تركت ارتياحاً واسعاً في أوساط الطرابلسيين وقيادات سياسية في الطائفة السنّية التي استهجنت ما آل اليه وضع الأكثرية الوزارية والتي لم تعد تحسب أيّ حساب للتوازنات الدقيقة في البلاد، بدءاً من المواقف التي رافقت التحضير لقانون الانتخاب الجديد. ورأت أنّ المناسبة كانت تسمح بهذه الخطوة التي اختارها ميقاتي بعناية تامّة.

هيئة الإشراف

وكانت احتدمت جلسة مجلس الوزراء التي انعقدت في بعبدا عصر أمس لدى مناقشة رأي هيئة الإستشارات العليا حول مهل تشكيل "هيئة الإشراف" وانقسام الآراء بين مؤيّد لتشكيلها ومعارض، فطلب سليمان من وزيرالداخلية طرح الأسماء للتصويت عليها، فاعترض عدد من الوزراء على مبدأ تشكيلها، فرفع سليمان الجلسة معللاً أمام الوزراء بأنّه لا يرى أو يتصوّر جلسة حكومية أو جدول أعمال لا يكون تشكيل الهيئة في مقدّمته، "حفاظاً على القانون وعلى الدستور الذي اؤتمنت عليه"، وطلب من وزير الداخلية إجراء مشاورات مع رئيس الحكومة لاقتراح أسماء جديدة في أقرب وقت.

وانضمّ رئيس الحكومة إلى موقف رئيس الجمهورية، وقال: "فخامة الرئيس، أنا أيضاً لن أدعو إلى جلسة لا يكون بند هيئة الإشراف في رأس جدول أعمالها".

ثمّ اقترح ميقاتي استدعاء اللواء أشرف ريفي من الاحتياط بعد تقاعده وتعيينه في موقع مدير عام لقوى الأمن الداخلي، فأيّد وزراء "جبهة النضال الوطني" الاقتراح، ورفضه وزراء "أمل" و"حزب الله" و"تكتّل التغيير والإصلاح"، فطلب ميقاتي من سليمان رفع الجلسة.

وقد رسمت المواقف الوزارية التي سبقت الجلسة مسارها سلفاً، فأكّد الوزير محمد فنيش رفض "حزب الله" التمديد لريفي وتشكيل"هيئة الإشراف".

وقال الوزير مروان شربل إنّه سيدافع عن وجهة نظره داخل الجلسة بضرورة التمديد لريفي أقلّه حتى شهر أيلول المقبل لدواعٍ أمنية.

واعتبر الوزيرعلي قانصو أنّ التمديد لريفي يحتاج إلى قانون وأنّه من دون قانون يكون باطلاً، متسائلاً: "لماذا الانتقائية في هذا المجال، ولماذا لا يكون هناك سلّة كاملة وشاملة؟".

وقال الوزير أحمد كرامي إنّه في حال حصل خلاف داخل الجلسة فهناك احتمال أن تستقيل الحكومة.

الجميّل

وليل أمس، علّق رئيس حزب الكتائب اللبنانية الرئيس أمين الجميّل على استقالة ميقاتي وقال لـ"الجمهورية": "هذا ما كنّا نتوقّعه منذ فترة، وعلى ما يبدو أنّ الكيل قد طفح بين حلفاء الأمس، وكنّا نعلم أنّه تحالف قائمّ ضدّ الطبيعة في الأساس".

وأضاف: "علينا اليوم أن نتنبّه إلى خطورة المرحلة المقبلة المليئة بالتطوّرات الإقليمية والدولية وتداعياتها على الساحة اللبنانية، والآن الدور هو لرئيس الجمهورية بغية قيادة السفينة نحو المرافئ الآمنة، وعلى القيادات السياسية أن تلاقيه وتتفهّم خطورة الوضع الراهن، وأن تتصرّف بكلّ حكمة ووطنية لدرء المخاطر المقدّرة على لبنان".

موقف جنبلاط

وتعليقاً على استقالة ميقاتي، قال النائب وليد جنبلاط إنّ القضية ليست قضية ريفي "بل حماية جهاز أمن قام بعمل جبّار". وأكّد أنّه ليس هناك فخّ، وإذا كان الموضوع يتعلق بالمحكمة الدولية نقول إنّه صدر بالقرار الاتّهامي أنّ بعضاً من "حزب الله" من المتّهمين قد يكونون مذنبين وقد لا يكونون، وليتفضلوا ويذهبوا إلى المحكمة الدولية ليدافعوا عن أنفسهم".

وقال: "لست أُملي أوامرعلى ميقاتي، ونحن وإيّاه سرنا بهذا المركب منذ انعطافة كانون الثاني 2011 من أجل الاستقرار، ولكن في الائتلاف الذي شكّلناه مع "التيار الوطني الحر"و"حزب الله" لم يُترك له المجال حتى تعيين بالوكالة"، مشدّداً على القول: "نريد الإبقاء على فرع المعلومات لا إلغاءَه، والقضية هي قضية دولة وليس طائفة".

وشدّد جنبلاط على أنّ "من يتحمّل مسؤولية استقالة ميقاتي هو من لم يترك له مجالاً لتعيين موظف"، مؤكّداً أنّنا "في السفينة نفسها مع ميقاتي، وهو طرح إمكانية قيام حكومة وحدة وطنية ونحن نعمل لصالح البلاد ويجب ان لا تأخذ أمور الاستقالة أبعاداً دراماتيكية".

وقال: "سنرى وفق الأصول الدستورية أيّ حكومة يريدها الشعب اللبناني".

في طرابلس

وقابل التوتر السياسي، استمرار التوتر الأمني على محاور جبهة باب التبانة ـ جبل محسن لكنّ الجيش اللبناني تمكّن من ضبط الوضع، وأعلن رئيس الجمهورية أن الجيش اتّخذ تدابيرأكثرحزماً ودفع بتعزيزات الى مدينة طرابلس، مؤكداً أنّ الوضع تحت السيطرة على رغم استمرار الخروقات.

وقد أدّت اشتباكات الأمس الى سقوط 6 قتلى وأكثر من 20 جريحاً قبل ان تفضي التدابير الأمنية والاتصالات السياسية الكثيفة الى فرض الهدوء الحذر بعدما أعلنت فاعليات دينية طرابلسية عقب اجتماع موسّع في دارالفتوى أنّ وقفاً لإطلاق النار بدأ منذ الساعة الرابعة من عصرالجمعة، مشدّدين على الاستقرار وإتاحة المجال للقوى الأمنية بترسيخه.

وكان النائب محمد كبارة طالب في مؤتمر صحافي عقده في دارته في طرابلس بعد اجتماع لفعاليات المدينة، الأجهزة الأمنية بالحسم وتطبيق الخطة الأمنية التي سبق الاتفاق عليها، داعياً رئيسي الجمهورية والحكومة إلى تحمّل مسؤولياتهما، مهدّداً بدعوة الناس الى عصيان مدني .
  

السابق
النهار: استقالة ميقاتي صدمة إيجابية أم أزمة مضافة نحو التمديد
التالي
المستقبل: حزب الله يضحّي بحكومته للتخلّص من أشرف ريفي