البناء: استقالة ميقاتي تفتح الباب على أزمة حكومية ووطنية

دفع الموقف المتسرّع الذي اتّخذه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بتقديم استقالته على خلفية سقوط بندي تشكيل هيئة الإشراف على الانتخابات، وإعادة تعيين اللواء أشرف ريفي مديراً عاماً لقوى الأمن الداخلي، بعد أن كان سبقه رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان بإعلانه "عدم ترؤّس أي جلسة للحكومة لا يكون فيها بند تشكيل هيئة الإشراف على الانتخابات بنداً أول، إلى أزمة حكومية ـ وطنية خطيرة ستقود حتماً ليس فقط إلى شلل المؤسسات، بل أيضاً إلى ترك البلاد في الفراغ السياسي، الذي قد ينتج عنه تداعيات خطيرة على المستوى الأمني، في ظل الفلتان المسلّح ومحاولات أخذ البلاد نحو الفتنة.

وبدا واضحاً أن ما قدّمه الرئيس ميقاتي من تبريرات لاتخاذ قرار الاستقالة لم يقنع أحداً من الذين استمعوا إليه، أو تمعّنوا جيداً في الكلمة التي وجّهها إلى اللبنانيين قرابة الثامنة والنصف مساء أمس، بعد حوالى ساعتين من "فرط" جلسة مجلس الوزراء التي لم تستغرق أكثر من ساعة ونصف.

استقالة ميقاتي تَحمل علامات استفهام
لذلك شكّل إعلان ميقاتي لاستقالته صدمة ومفاجأة للأوساط السياسية والشعبية، ذلك أن حجم ردّة الفعل كان أكبر بكثير من السبب، إلا إذا كان هناك أسباب غير معلنة دفعته إلى هذه الخطوة، فالبلاد مرّت منذ تولّيه رئاسة الحكومة وحتى الآن بمحطات أصعب بكثير من هذا الموضوع الذي لا يستأهل الذهاب إلى حدود الاستقالة، لا بل إن هناك أحداثاً وملفّات ووقائع كانت قد تؤدّي إلى مثل هذه الخطوة، لكن ميقاتي واجَهها في السابق مدعوماً داخلياً وخارجياً، فما الذي تغيّر اليوم ليعلن الاستقالة؟

أسئلة كثيرة تُطرح، لعل أبرزها، ما هي الدوافع الحقيقية التي جعلت ميقاتي يتّخذ هذه الخطوة ليضع البلاد أمام مفترق خطير؟ بل لماذا لم يرجئ الإقدام عليها، مع العلم أن هناك مسافة من الوقت "لاستحقاق" تقاعد اللواء ريفي؟ وهل أصبحت الطريق الدولية والإقليمية معبّدة أمام رحيل هذه الحكومة، بعد أن كانت كل الدلائل حتى الأمس القريب، تؤشّر إلى أن المجتمع الدولي يدعم بقاءها وسياسة النأي بالنفس؟
لا شك أن الرئيس ميقاتي يملك جزءاً من الإجابة على هذه الأسئلة، إن لم يكن كلها، غير أن ما أقدم عليه بعد جلسة مجلس الوزراء أمس جاء على طريقة وضع "دفتر شروط" غير مقبول من الأكثرية في مجلس الوزراء، الأمر الذي جعله يُقدم على ما أقدم عليه.

وبصرف النظر عن رأي الرئيس سليمان من موضوع تشكيل هيئة الإشراف على الانتخابات ورأي الرئيس ميقاتي من التمديد للواء ريفي، فإن اللعبة الديمقراطية والالتزام بمضمون نظام مجلس الوزراء، وكل الأعراف السابقة كانت تفترض من الرئيسين سليمان وميقاتي القبول بما تنتهي إليه النقاشات داخل جلسة مجلس الوزراء سواء بالتصويت أو غير ذلك، مع أن وزراء الثامن من آذار حرصوا على عدم إحراج رئيس الجمهورية بتأكيدهم أنهم غير معنيين بالتصويت على تشكيل هيئة الإشراف على الانتخابات. كما أن الرئيس ميقاتي كان يجب عليه أن يلتزم بما تقرّره الأكثرية وليس محاولة ابتزاز شركائه في الحكومة، على طريقة "أنا أو لا أحد" أي فرض القرارات بقوّة الابتزاز وليس بقّوة الديمقراطية، مع العلم أن هناك العديد من العمداء في قوى الأمن الداخلي من الطائفة السنيّة لديهم الكفاءة والمقدرة ليكونوا على رأس المديرية العامة للأمن الداخلي.

لكن السؤال الأخطر للمرحلة المقبلة الذي يحمل الكثير من علامات الاستفهام، هو ما ينتظر البلاد في المرحلة المقبلة، خاصة على الصعيد الأمني، بعد أن تُرك الجيش والقوى الأمنية الأخرى من دون تغطية سياسية لمواجهة الفلتان الأمني، ومحاولات تفجير الساحة الداخلية وجرّها إلى الفتنة، مع أن الفترة الماضية شهدت تراخياً كبيراً في التصدّي للفلتان الأمني والتجييش المذهبي، نتيجة غياب القرار الحاسم داخل مجلس الوزراء، لمواجهة هذه الظواهر الخطرة والتي أصلاً جرى تغطيتها من قِبل البعض في الحكم والحكومة. وكان آخر فصولها تعمُّد توتير العلاقة اللبنانية ـ السورية من خلال إصدار مواقف تصف الأخبار عن قصف سوري لخراج بلدة عرسال جرى فبركته من الإعلام المشبوه بأنه "انتهاك للسيادة اللبنانية".

ميقاتي حاول "ابتزاز" برّي
وفي المعلومات المتوافرة لـ"البناء" أن الرئيس ميقاتي كان فاتح الرئيس بري أنه قد يتّجه إلى خطوة سلبية إذا لم يتم التجديد لريفي، ونصحه رئيس المجلس بعدم سلوك مثل هذه الخطوة، غير أن الاجتماع انتهى من دون نتائج حاسمة وانتقلت المشكلة لاحقاً إلى مجلس الوزراء، وحصل ما حصل، وكان بما يشبه اعتكاف رئيس الجمهورية عن استكمال الجلسة بسبب فشله بتشكيل هيئة الإشراف على الانتخابات، لجهة عدم تمرير ميقاتي للتمديد إلى اللواء ريفي. كما جرت اتصالات بعد الجلسة على أكثر من صعيد، ومنها مداخلات من بعض السفراء ـ خاصة الأميركي والفرنسي ـ غير أنه لم يُعرف ماهيّة هذه المداخلات وتوجّهها، فالنتيجة الوحيدة التي انكشفت للرأي العام أمس، هي استقالة ميقاتي وبالتالي الحكومة.

وبطبيعة الحال، فإن أسئلة عديدة مطروحة بعد الاستقالة، ولعل السؤال الأكبر فيها، هو هل تتحوّل الحكومة إلى تصريف أعمال لفترة طويلة في غياب التوافق الداخلي، على قيام حكومة جديدة؟ أم أننا ذاهبون إلى أزمة أبعد من ذلك.

أوساط برّي
ورفضت أوساط قريبة من الرئيس برّي التعليق على أسباب وخلفيات استقالة ميقاتي. وقالت "لننتظر بعض الوقت قبل أن نُطلق المواقف والتحليلات، لأن وضع البلاد دقيق ولا يحتمل الكلام غير المسؤول".
وأضافت "إن القضية تحتاج إلى هدوء ودراية حرصاً على الاستقرار، ولكي تتمكّن البلاد من استيعاب ما حصل".

مصدر وزاري لـ"البناء": لم نُفاجأ
وتحدّث مصدر وزاري لـ"البناء"، فأشار إلى أننا "لم نُفاجأ باستقالة ميقاتي، فبوادرها بانت عندما بدأ الحديث عن التمديد لريفي، لا بل الإصرار على هذا الموضوع، علماً أن عدداً من الوزراء تمنّوا عليه إعادة النظر بموقفه رحمة بالبلد، واستدراكاً لما قد ينتج عن الفراغ وخصوصاً في ظل الوضع الأمني القائم".

وحذّر المصدر من خطورة ما نشهده في طرابلس وغيرها من المناطق، فالأمور لا تبشّر بالخير، لأنّ مثل هذه الاستقالة وفي هذا الظرف بالذات قد يعزّز من هذه المخاطر، وبقدر ما نسرِّع في تشكيل الحكومة، بقدر ما نعمل على فرملة مسار التردّي الأمني في البلاد.

وفي المسار الدستوري، اعتبر المصدر أن مرحلة تصريف الأعمال لهذه الحكومة تبدأ من تاريخ تقديم استقالة خطية إلى رئيس الجمهورية، وتستمر هذه الفترة إلى حين تشكيل حكومة جديدة، لافتاً إلى أن رئيس الجمهورية مُلزم وفي فترة محدّدة في الدستور، في البدء باستشارات جديدة لتكليف رئيس جديد، ومتمنّياً ألاّ يطول مثل هذا الأمر.
وهل سيُعاد تسمية الرئيس ميقاتي، لم يجزم المصدر في هذا الموضوع "لأن لا معطيات نملكها بعد، والأمور مرهونة بمحادثات ومناقشات الأفرقاء السياسيّين وفق خريطة البلاد السياسية"
وأشار إلى أن اجتماعات ولقاءات مرتقبة لكتل وأحزاب فريق 8 آذار في سياق البحث عن من سيخلف الرئيس ميقاتي.

ماذا حصل في جلسة الحكومة؟
وكانت جلسة مجلس الوزراء انعقدت في قصر بعبدا قرابة الخامسة عصر أمس، استهلّها الرئيس سليمان بمداخلة عن الأوضاع والتطوّرات الأخيرة، خاصة الأوضاع الأمنية، بعدها طُرح البند الأول في جدول الأعمال المتعلّق بتشكيل الهيئة العليا للإشراف على الانتخابات، وبعد تشديد سليمان على ضرورة تشكيلها، عرض وزير العدل شكيب قرطباوي لرأي الهيئة العليا للاستشارات في وزارة العدل، الذي كان بالأكثرية ضد تشكيلها، لأن قانون الستين أُقرّ لمرة واحدة. لكن رئيس الجمهورية أصرّ على تشكيلها، وبعد مداخلات عدد من الوزراء خاصة وزراء الثامن من آذار، طلب سليمان طرح الموضوع على التصويت، فأكد الوزراء أنهم غير معنيين بالتصويت، وعاد رئيس الجمهورية وألحّ على قراره بطرح الموضوع على التصويت، عندها صوّت سبعة وزراء بينهم الرئيس ميقاتي مع تشكيل الهيئة بينما لم يرفع وزراء الثامن من آذار أيديهم مؤكدين أنهم غير معنيّين بالتصويت.

بعد ذلك، طلب الرئيس ميقاتي أن يصار إلى تعيين اللواء أشرف ريفي مجدّداً في رئاسة المديرية العامة للأمن الداخلي، بحيث يصار إلى استدعائه بعد إحالته على التقاعد مطلع الشهر المقبل، لكن هذا الطلب جرى الاعتراض عليه من قِبل وزراء الثامن من آذار، عندها طلب ميقاتي رفع الجلسة وتوجّه على الفور إلى السراي الحكومي.

لقاء بكركي
أما في شأن الحراك السياسي بشأن قانون الانتخابات، فقد عُقد في بكركي عصر أمس اجتماع للأقطاب الموارنة برئاسة البطريرك بشارة الراعي، بينما تمثّل سمير جعجع بنائبه جورج عدوان، وأفيد أن غياب جعجع جاء "لأسباب أمنية"! وكان الأخير اتصل نهاراً بالبطريرك الراعي ورئيس "تيار المستقبل" سعد الحريري وجرى البحث مطوّلاً في قانون الانتخابات.
وسبق اجتماع بكركي، قيام الراعي بزيارة الرئيس سليمان في قصر بعبدا، وجرى عرض لما تمّ الاتفاق عليه في روما حول قانون الانتخابات، في اللقاءين اللذين عقدهما الراعي مع الرئيسين برّي وميقاتي.
وأكّد لقاء بكركي في بيان له "انفتاحه تجاه كل ما من شأنه تقريب وجهات النظر بين اللبنانيين والمساهمة في إيجاد مخارج للأزمة".

تراجع العنف في طرابلس
وعلى خط موازٍ بقي السباق قائماً في طرابلس بين الإجراءات التي يتخذها الجيش اللبناني لإعادة الأمن والاستقرار إلى عاصمة الشمال، وبين محاولات القوى المشبوهة تفجير الوضع الأمني هناك، خدمة لأجندات خارجية باتت معروفة للجميع وتتمثّل باستباحة الشمال لكي يكون ساحة لتسلّل المسلّحين إلى سورية، وقيام الدويلات المتطرفة. كما لوحظ أن أكثر من اعتداء تعرّضت له وحدات الجيش في المدينة، أدّى إلى استشهاد عسكري وجرح عدد آخر.

وكانت استمرّت الاشتباكات حيث تعنف أحياناً وتخف أحياناً أخرى، على محاور طرابلس وتحديداً بين التبانة وجبل محسن والريغا والشعراني وحارة البقار والمنكوبين، في وقت ردّت وحدات الجيش على مصادر إطلاق النار لإسكاتها، وأدّت الاشتباكات إلى سقوط ستة أشخاص بينهم عسكري في الجيش وجرح أكثر من 20 شخصاً.

كما أفيد أن قوى الجيش اعتقلت شخصين على علاقة باستهداف العنصرين في اللواء 12، وتوقيف خمسة أشخاص آخرين خلال مداهمات في بعض أحياء طرابلس من المشاركين في المعارك.

ولوحظ أن "تجمّع العلماء والقوى الإسلامية" في القبة والتبانة الذي اجتمع بعد ظهر أمس، أعلن التزامه بوقف إطلاق النار اعتباراً من التاسعة ليلاً، مع ما يعني ذلك من تساؤلات حول حقيقة ما يجري في طرابلس. كما أعلن رئيس الحزب العربي الديمقراطي رفعت عيد "عن وقف لإطلاق النار من جانب واحد وتَرْك الأمور للجيش لضبط الوضع".

وأعلنت قيادة الجيش أن وحداتها واصلت تنفيذ إجراءاتها الأمنية داخل الأحياء المتوتّرة في طرابلس، بما في ذلك تنفيذ عمليات دهم واسعة لأماكن وجود المسلّحين، حيث أوقفت عدداً منهم، وضبطَت بحوزتتهم كمية من الأسلحة والذخائر. وأوضحت أن هذه القوى تعرّضت لإطلاق نار، ما أدّى إلى استشهاد أحد العسكريين وإصابة عدد آخر بجروح مختلفة. وأكّدت على استمرار إجراءاتها لملاحقة المسلّحين والردّ على مصادر النيران.
  

السابق
الأنوار: استقال ميقاتي تاركا التوتر الامني ومشاكل السلسلة والانتخابات
التالي
الشرق: استقال…والازمة مفتوحة