نحو ربيع عربي آخر

انتظر اللبنانيون مئة عام تقريباً قبل ظهور مؤرخ فرنسي، مستشرق، ليثبت لهم العلاقة السببية بين الثورة الصناعية في الغرب والحربين الأهليتين في عامي 1840 و1860.

برهن دومينيك شوفالييه في كتابه «مجتمع جبل لبنان في عصر الثورة الصناعية في أوروبا» (الذي تأخرت ترجمته إلى العربية عقوداً إضافية) أن تضافر الأزمة الشاملة التي كانت تعيشها السلطنة العثمانية، في ظل الضغط الشديد الذي حملته الثورة الصناعية في الغرب على الاقتصاد العثماني، بالتوازي مع التبدلات السكانية في جبل لبنان، أدى إلى اندلاع الصراع الأهلي مرتين في غضون عشرين عاماً.

كانت السلطنة – وفق شوفالييه – عاجزة عن الانتقال من الطور الزراعي – الجبائي ومن مجتمع المِلل المتجاورة إلى طور اقتصادي أرقى وعلاقات اجتماعية توفر قاعدة حكم سياسي أعرض، رغم شعور الأتراك بضرورة التغيير الذي أملى عليهم إصدار «التنظيمات». جاء ذلك في الوقت الذي مال فيه الميزان السكاني لمصلحة المزارعين الموارنة المطالبين بالمزيد من الحقوق السياسية والحريات الثقافية والاقتصادية، على حساب أصحاب الأملاك الدروز. الأزمة الاقتصادية العثمانية العميقة، والتطلب الغربي للسلع (الحرير والمواد الزراعية عموماً) لتحريك الدورة الصناعية، والحرمان السياسي عند قطاعات واسعة من سكان الجبل وسط حركة تعليم كبيرة يشرف عليها المرسلون الغربيون أساساً، عوامل اجتمعت لتفجر صيغة الحكم في الجبل المعتمدة على الجباية الخراجية التي ظلت على حالها طوال قرون.

واليوم، يبدو أننا ننتظر من يأتينا من وراء البحار ليثبت لنا الارتباط العضوي بين الطور الحالي من العولمة بأزماتها الاقتصادية وبين مآزقنا السياسية والاجتماعية والثقافية، في إطلاق شرارة «الربيع العربي» وثوراته. وما زال كثر يرفعون من شأن التحليلات الجيو- استراتيجية ويبخسون العوامل العميقة الجذور التي أوصلت مجتمعاتنا إلى الطرق المقفلة والجدران العالية.

ورغم أعداد لا تحصى من الأعمال التي تتراوح بين الغث والسمين، بين الكتاب والمقالة، بين الحديث التلفزيوني والدراسة العميقة، ما زلنا نسعى في الإحاطة بمجمل الظروف التي أفضت إلى انهيار «النظام الرسمي العربي» القديم الذي ظهر بين الثمانينات والعقد الأول من القرن الحالي كأمر واقع لا يقبل التغيير بحال من الأحوال.

ليس جديداً الاعتراف بأزمة الثقافة العربية. أزمة بمعنى تهالك وتقادم الأدوات المعرفية التي يرى العرب فيها إلى أنفسهم وألى العالم، من جهة، والصراع القاسي الذي يخاض في كل محاولات النقد والتطوير والتجديد، من جهة ثانية. غني عن البيان أن الحالة المذكورة مرتبطة بتصلب القوى الممسكة بالسلطة في العالم العربي وإدراكها الفطري الصلة بين موقعها في المجتمع وبين النقد الذي يستهدف الفكر الذي تحمل، سواء كان بعثياً أو أوتوقراطياً أو غير ذلك.

ولا مفر من البحث عن أدوات جديدة في التحليل والتفكير خارج المكتبة العربية، وخارج منظومة الثنائيات من المقدسات والمحرمات. من «خارج الصندوق» كما يقال. نحن في متاهة الفكر ومتاهة العقل. ونغامر بالسقوط في لجج العدمية واللامعنى إذا لم نخض هذا التحدي الجديد بمسؤولية وانفتاح وسعة أفق.

ولعل في الثورات العربية درساً جديداً عن تقدم الحراك الاجتماعي على وسائط فهمه وإدراكه. لكن فيها درساً آخر يحض على التخلص من الأدوات المعرفية القديمة التي باتت تهدد بإعادتنا إلى ماضي الاستبداد والانغلاق رغم تفتح براعم الربيع.

السابق
انفجار لغم من مخلفات الجيش الإسرائيلي في حاصبيا
التالي
حزب الله في سوريا