فنانو الثورة السورية

ما اختزنته سوريا من طاقات، تكفّلت الثورة بإخراجه إلى العلن. منذ الشرارة الأولى، استنفر الجميع. الحصّة الأشمل والأكثر تنوّعاً، صبّت نحو عالم الفنون. السوريون رواد في هذا المجال، قرّروا توظيف طاقاتهم لدعم الثورة. العمل في أكثر من اتجاه، يوحده منطق "الحرية". أخرجوا ما أوتوا به من طاقة، ما اختزنوه من أفكار كان ممنوعاً مجرّد التفكير بها في سنوات خلت. ظهروا في صفّ واحد، متمكنين عبر وجودهم داخل البلاد أو خارجها، من الانخراط في الثورة. لعبت لافتات التظاهرات السورية المتقنة دورها وكذلك كلمات وأغاني الـ"راب"، الحملات المنظمة على "فايسبوك" و"تويتر"، وحتى عمل المدونين وكيفية تنظيمهم لتدويناتهم.. حتى اعتُبر أنه يمكن وضع هذا الإنتاج في خانة التوثيق لكثير من الأحداث. الرسم والـ"غرافيك" كان لهما مكانتهما. مع كل تفصيل صغير، وجد الجميع أنفسهم أمام كميّة من الرسوم المتابعة للحدث. لم ييأس الشباب. مع كل انتكاسة جديدة، كان إنتاجهم يزداد غزارة. في وسائل التواصل الاجتماعي، كان الحراك الأبرز. صفحات كثيرة على "فايسبوك" تكفّلت باحتضان هذه الأعمال والترويج لها. وهكذا انتشرت الصفحات والأعمال وأسماء أصحابها، ومعهم مظلوميّة الشعب السوري.
سرعة مواكبة
امتاز الفنانون الشباب بسرعة البديهة، مكّنتهم من مواكبة أي جديد بالرسم. ما يتفاوت هو مقدار الاهتمام بحدث محدّد، فيجد المتابع أنّ أحداثاً تحظى باهتمام عال على عكس غيرها. لكن كميّة الرسوم والأعمال المنجزة وجدت رواجاً سريعاً. وغالباً ما كان الاحتقان الذي يولّده العنف والقتل والدمار، دافعاً أساسياً لملاحظتها واعتمادها أداةً للتعبير. تحرير منطقة الرقة، وما رافقه من تهليل في وسائل التواصل الاجتماعي، كان بحاجة لصورة تبقى في الذاكرة. هوى تمثال حافظ الأسد، وما هي إلا ساعات حتّى خرج إلى الفضاء العام رسمٌ للتمثال وهو يهوي ومن خلفه قوس قزح يحلّ مكانه. انتشرت الصورة وهلّل من خلالها داعمو الثورة لنصرهم الجديد.
كذلك كان قصف كلية الهندسة المعمارية في جامعة حلب. مع وصول أول الأخبار، بدأ الشباب السوريون بتحضير ملصقاتهم. راجت الأخيرة سريعاً، وتحوّلت خانات الصور الشخصية على "فايسبوك" إلى أدوات هندسية ممتلئة دماً. وكان لمخبز حلفايا حصّته أيضاً. قصف المخبز حوّل أغلب الفنانين نحو التركيز على صورة امتزاج الخبز بالدم.
نرى التركيز في كثير من الرسوم يتّجه نحو التفاصيل الإيجابية. وهي محاولة لجعل ما هو مستحيل، أقلّه في الفترة القريبة، فكرة موجودة ولو ورقيّاً.
لكن لا إمكانيّة لهؤلاء الشباب من الهرب من الصورة العامة. وما يحتل المشهد السوري من قتل ودمويّة، انتقل بيسر إلى أعمالهم. اعتمد الشباب الأسلوب "المباشر" لإيصال أفكارهم، فانسحب الواقع بدمويّته وقسوته إلى لوحاتهم. تشترك أغلب الرسوم في تجسيد مباشر للرقاب المحزوزة، الدماء والأطفال القتلى…
يُبرّر الفنان السوري أيهم جمعة (خريج كلية الفنون الجميلة في دمشق) بأنّ الأعمال "المباشِرة" تحظى عادةً برواج أوسع من تلك ذات البعد المجرد أو الفلسفي. لكنه يفضّل في أعماله الخاصّة كل ما هو "حمّال أوجه" أي ما يحتاج برأيه تفكيراً لاكتشاف معناه. فهو لا يسعى إلى الرواج بالمقدار الذي يبحث فيه عن أعمال ترسخ في الذاكرة وتترك أثراً.
إنتاج خارج الزمان
السؤال يدور حول قدرة هذا الزخم من الأعمال على إنتاج ما سيتخطّى الإطار الزمني، ليطال أي فرد في أي وقت كان. توثيق الثورة الآني يحتاج إلى توثيق مستقبليّ أوسع وأكثر شمولاً.
لا يختلف كلّ من الفنانين أيهم جمعة ووسام الجزائري (خريج تصميم الغرافيكي من جامعة بلغاريا الجديدة في صوفيا)، حول توفّر القدرة على إنتاج هذا النوع. يُشدّد الجزائري على الميتافيزيقا وعلى ماورائيات النفس البشرية، كمهمة أساسية لدى الفنان لرسم لوحة تخرج من الإطار الزمني. يُصرّ على الابتعاد عن فكرة "الدعاية السياسية"، والتفرّغ للقضية الأشمل، وهي آلام السوريين وأوجاعهم. في نفس الوجهة يسير جمعة، محاولاً إعطاء أمثلة عن المواضيع الشاملة كأثر الحروب على الأطفال أو تأثير النساء في الثورات.. لكن في نفس الوقت يرى أيهم أنّ جميع الأعمال الثورية المتحدّية للأنظمة الديكتاتورية يمكنها بسهولة تجاوز ظرف الزمان.
لكن في ظلّ الأوضاع الاستثنائية، كيف السبيل إلى الرسم أصلاً؟ فعليّاً، مع بدء الثورة، انقلب تعاطي الفنانين السوريين مع لوحاتهم. ما كان متوفّراً من مواد في السابق بات اليوم نادراً. ومن يقبع تحت القصف والموت، لا يمكنه إنتاج عمل مشابه لمن هو في ظروف هادئة. لكن يُجمع الفنانون الشباب أنّ هذا الظرف، غيّر في إدراكهم للمسائل. باتوا اليوم يعملون وفي دواخلهم مساحات أكبر من الطاقة والحرية والقدرة على التنفّس.
تغيّرت الخامة اللونية لدى وسام الجزائري. انعكس الحزن على كلّ شيء، لهذا اتجه نحو اعتماد اللونين الأحمر والأسود. كلّ من أيهم وتمام عزّام، الشاب الذي ترك سوريا بعد 6 أشهر من بدء الحراك، انتقلا نحو الكمبيوتر. كلٌّ له مبرره. كان أيهم يستخدم تقنية "الرسم الورقي" الذي يتطلّب وقتاً، لهذا لجأ مع الثورة إلى الكمبيوتر. عزّام بعد انتقاله إلى دبي، فقد مرسمه، لهذا لجأ إلى الكمبيوتر، مازجاً ما بين الرسم والديجيتال.
مستمرّون مع ثورتنا
يلتفت أغلب فناني الثورة إلى إشكالية "الغزارة الإنتاجية والمستوى". خيطٌ رفيع يفصل بين النقطتين. يجتمعون حول الحرص على تأمين كميات كبيرة من الإنتاج لتغذية الثورة فنيّاً، لكنهم لا يغفلون عن أهمية الحفاظ على المستوى الجيّد. تتبادل الأعمال في ما بينها صفحات "فايسبوك"، سواء "الفن والحرية" أو "فنون الثورة السورية" أو "دولتي" وغيرها. من هنا يظهر تفاوت المستوى. أسماء كثيرة ترسم للثورة. لكنّ بين اسم وآخر فرقا كبيرا في المستوى، لكنّ هذا يبقى تفصيلاً مقابل الرغبة بالحفاظ على ديمومة الإنتاج والمساهمة.
يشدّد وسام الجزائري على أن لا حجّة لأحد في تباطئه عن دعم الثورة، فغزارة الإنتاج هي المطلوبة في هذه الفترة، برأيه. ويرى أن مواكبة التطورات، رسماً، أمرٌ بالغ الأهميّة.
يبتعد أيهم عن هذا الجوّ، حاملاً رأسه وقلمه إلى عالمه الخاصّ. لا يمكنه إنتاج أي شيء. هو يحتاج إلى فكرة ناضجة، لكن في أحيان تتوالى الأفكار على رأسه، لهذا يُسْرع في تفريغها دون الالتفات إلى "نوعيّتها". بدوره يُركّز تمام عزّام، على مصطلح "عمر الثورة". يرى الشاب أن إنتاجه ليس غزيراً لكن عمر الثورة أصبح طويلاً، وهو يغلِّب أهمية السوية الفنية.

السابق
القضاء القبرصي يعلن اليوم حكمه النهائي في قضية حزب الله
التالي
حبيش: لا مؤشر على اجراء الانتخابات في موعدها