محمد علي مقلِّد عن كتابه الشيعية السياسية

الباحث الدكتور محمد علي مقلِّد الذي ما زالت تؤرقه مسألة إصلاح النظام السياسي اللبناني، وضع كتابه الجديد: "الشيعية السياسية (بحثٌ في معوِّقات بناء الدولة)"، والذي يستكمل فيه، تقديم طروحات مشروعه الذي بدأه في كتابه السابق "اغتيال الدولة"، "لإعادة بناء الوطن والدولة في لبنان".
هنا حوار مع مقلِّد حول كتابه: "الشيعية السياسية" (الصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون في طبعة أولى 2012)، والذي يتناول فيه الشّيعة وموقعهم في عملية بناء الوطن، ودورهم في عملية الانتقال من نظام المِلل العثماني إلى الدولة، وذلك من خلال نقده لتجارب المارونية السياسية والسُّنية السياسية عموماً، والشيعية السياسية خصوصاً.
• كتابك الجديد "الشيعية السياسية (بحث في معوّقات بناء الدولة)" تعلن فيه قائلاً: "لقد اخترنا أن نكتب عن التاريخ السياسي للبنان الحديث، أي منذ بداية تأسيسه عام 1920، ولهذا نتناول الشيعة وموقعهم في عملية بناء الوطن ودورهم في عملية الانتقال من نظام الملل العثماني إلى الدولة". فلماذا اخترت – وبشكل عام – الكتابة عن هذا التاريخ اليوم؟
الحقيقة أنني بعد الانهيارات الكبرى التي حصلت في بداية التسعينيات عكفت على قراءة تجربتي النضالية قراءة نقدية، وتوصلت إلى استنتاج أساسي قوامه أن أزمة لبنان مرتبطة ارتباطاً عضوياً بمسألة بنائه كوطن، وبعيدة كل البعد، عن أن تكون مسألة قومية أو طبقية أو إيديولوجية. رغم ترابط هذه الجوانب وتكاملها. فمشكلة لبنان أنه لم يتحوّل إلى وطن والدولة فيه لم تصل إلى مستوى الدولة بمعناها الحديث. ولذلك تمكنت العوامل الخارجية من التسلّل إلى بنيته الداخلية وتفجيرها كلما احتدمت التناقضات الإقليمية والدولية. حلُّ المعضلة اللبنانية، إذن لا يكون ببناء الاشتراكية ولا ببناء الدولة القومية (أي الوحدة العربية)، ولا ببناء الدولة الدينية أو الطائفية أو المذهبية؛ بل الحلّ يتمثل في بناء دولة القانون والمؤسسات. بعد اتفاق الطائف أُعطي للنظام السوري دور استثنائي وظّفه لصالح مشروعه وعلى حساب إعادة بناء الوطن والدولة في لبنان. واستخدم الشيعية السياسية قوة ارتكاز أساسية لتنفيذ هذا المشروع لذلك انصبّ اهتمامي في هذا الكتاب على دور الشيعية السياسية في تدمير مقوّمات الوطن والدولة.

مذهبية ثلاثية
• كذلك، تُعلن، في هذا الكتاب، أن كتابتك عن "الشيعية السياسية" إنما هي "لأن عقد المشاريع المذهبية يكون قد اكتمل مع هذا المشروع المذهبيّ الثالث"، بعد المشروعين المذهبيين السابقين عليه: "المارونية السياسية" و"السُّنِّية السياسية"؛ لكن لماذا لم تتطرّق مطلقاً إلى الحديث، في هذا السياق، عن الدرزية السياسية، ضمن تركيبة النظام السياسي اللبناني القائم على "المحاصصة الطائفية"، علماً – وكما توضح – أن لبنان هو عبارة عن مجموعة أقليات، وتبعاً لذلك، أفلا يوجد درزية سياسية في لبنان والتي هي بداهةً من صُلب هذا النظام، بالمعنى الذي تشير إليه في هذا الكتاب؟
جواباً على هذا السؤال؛ أنا أعتقد أن المقوّمات المتوفرة لبناء مشروع مذهبيّ أو طائفي مكّنت المارونية السياسية من التحقّق مع استقلال لبنان، وجاءت ردة فعل القوى اليسارية والقومية والتغييرية، لتعتمد مشروعاً مضاداً، أطلقت عليه اسم السنية السياسية وهو مشروع لم يحمله أهل السنّة لكنهم اغتبطوا حين حمله سواهم بالنيابة عنهم وتمثّل هذا المشروع بالمطالبة بتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية (الماروني)، لحساب صلاحيات رئيس الوزراء (السنّي). وكان الشعار الذي يلخّص هذا المشروع هو "المشاركة".
المشروع الثالث الممكن حملَتْه الثنائية الشيعية، بمساعدة قوية من الحليفين الإقليميين سوريا وإيران، ولا أعتقد أن في لبنان طوائف أو مذاهب أخرى يمكن أن تحمل مشاريع مماثلة. وذلك لأسباب متعلّقة بموازين القوى الداخلية التي لا تتيح للطائفة الدرزية أن تحلُم بمثل هذا المشروع، كما أن التوازنات الخارجية لا توفِّر له دعماً كافياً.

دروس مُغَيَّبَةٌ
• ثمة عنوان داخلي لافت، في هذا الكتاب السجالي، وهو بحرفية صيغته التعجُّبية في الصفحة (110): "النقد مناسبة لتأكيد الخطأ!" (أي بهدف تصحيح الخطأ ضمناً)، ألهذا فاضت مضمونيّة هذا الكتاب بالنقد التحليليّ اللاّذع لكل القوى السياسية اللبنانية منذ ولادة لبنان الكبير إلى اليوم؟
للأسف القوى السياسية في لبنان وفي العالم العربي لا تعتمد قراءة علمية نقدية لتجاربها ولذلك، فهي معرَّضة للوقوع في الأخطاء ذاتها التي يمكن أن تكون قد وقعت فيها. وهذا ما ينطبق بوضوح على المنخرطين في التجربة اللبنانية. أول الدروس المستفادة من هذه التجربة هو أن الحرب الأهلية لا تؤول إلى انتصار أحد وهزيمة أحد؛ بل، يخرج الكلّ خاسراً منها. ثاني هذا الدروس أن الحروب الأهلية كلها، طبعاً بما فيها الحرب الأهلية اللبنانية، لا تنتهي إلا بتدخل خارجي، بل هي لا تحصل، أصلاً، إلا بإرادة خارجية ومساعدات خارجية تغذّي التناقضات الداخلية وتستفيد منها. هذا ما ينطبق على التدخل السوري والإسرائيلي والإيراني والعربي والدولي، حيث كلّ طرف يسعى وراء مصالحه، إلا القوى السياسية اللبنانية فهي وحدها التي لم تكن تعمل لمصلحة وطنها، بقدر ما كانت مطية لمشاريع القوى الخارجية، بهذا المعنى كل القوى السياسية اللبنانية ارتكبت فعل الخيانة بحق الوطن والدولة حين فرّطت بالسيادة والوحدة الوطنية وارتضت لنفسها رعاية مصالح القوى التابعة لها. هذا ما فعله اليسار حين ربط مصيره بالمعسكر الاشتراكي، وبقوى الصمود والتصدي، وهو ما فعلته قوى "اليمين" اللبناني حين استدرجت التدخل السوري ثم الإسرائيلي، وهو ما تفعله الشيعية السياسية اليوم في وقوفها داخل معسكر "الممانعة".
فضلاً عن ذلك هناك دروس عديدة أخرى لم تكلّف القوى اللبنانية نفسها عناء قراءتها بعين نقدية، ولذلك لم تتوصل إلى الاستنتاج المحوري القائل، بأن لبنان القوي يكون قوياً بوحدته الداخلية أولاً، وأن كل عوامل القوة الأخرى، هي عوامل مساعدة، ولا قيمة لها إذا ما تعرّضت الوحدة الوطنية للتفكّك.

كتابان نقديان
• تقول إن هذا الكتاب هو بمثابة الجزء الثاني لكتابك "اغتيال الدولة"، ذلك لأن فكرة واحدة تجمع الكتابين اللذين يسيطر عليهما هاجس واحد يتمحور حول السبيل لإخراج لبنان من أزمة سياسية مستعصية، وهذا السبيل هو "إعادة مشروع بناء الوطن (النهائي لمواطنيه) والدولة (دولة القانون والمؤسسات)"، برأيك إلى متى سيبقى هذا الهاجس المزمن قائماً؟
كتابي "اغتيال الدولة" هو نقد لتجربة اليسار اللبناني، أي لتجربة السنية السياسية، وكتاب الشيعية السياسية "هو نقد لمشروع النظام السوري الذي حملته الثنائية الشيعية (أمل وحزب الله) وحين صدر كتابي الأول "اغتيال الدولة" عُدَّ ذلك مغامرة في الفكر السياسي، لأن فكرة الدولة لم تكن محلّ إجماع وطنيّ، بل على العكس احتلت مرتبة ثانوية بعد قضايا كبرى عدّت "مقدسة" كالعلاقة المميزة بسوريا وتحرير التراب الوطني؛ أما اليوم فقد غدا موضوع بناء الدولة على كل شفة ولسان غير أن لكل قوة سياسية تصوّرها، ومشروعها لبناء الدولة ولدى كل منها مواصفات من الدولة العادلة والدولة القوية والدولة المقاومة، والدولة الممانعة… إلخ.
كتاب "الشيعية السياسية" يركّز على صفة أساسية وهي شرط ضروريّ لبناء الدولة: إنها دولة القانون والمؤسسات وهي ذات مواصفات عالمية معتمدة في كل الدولة الحديثة، من بينها الديموقراطية، وتداول السلطة والفصل بين السلطات" والعدالة الاجتماعية والحريات.. إلخ. وإنني أرى أن ذلك هو المخرج الوحيد للبنان من أزمته، وبتعبير آخر، لن تجد المعضلة اللبنانية طريقها إلى الحلّ إلا ببناء دولة القانون والمؤسسات التي من شأنها تنظيم الحياة السياسية والصراعات والعلاقات بين القوى الداخلية، انطلاقاً من الحدّ الأدنى الذي ينبغي توفُّره في الوحدة الوطنية وسيادة القانون.

اكتشاف متأخِّر
• بالرغم من أن هذا الكتاب، هو بحثٌ في الإصلاح السياسيّ الشامل، إلاّ أن اللافت فيه حقّاً هو، أن الموضوعية والذاتية متسمتان بالحرارة ذاتها، من حيث وقوفهما معاً، وبالقوة نفسها، على سوية واحدة، أمردُّ ذلك إلى قوة الانتماء الحميم والمُحْكَم لديك إلى الطائفة والوطن بالنسبة نفسها؟
لا شك في أن تجربتنا اليسارية والعلمانية أساءت إلى موقفنا من الدِّين، وقد اكتشفت متأخراً، وقد اكتشفت من خلال قراءتي النقدية أن من الضروري إعادة الاعتبار إلى انتمائنا الطبيعي لطوائف ومذاهب، منها تعلَّمنا، العادات والتقاليد، وتزوّدنا بثقافة اجتماعية وأخلاقية وأدبية واسعة، شكلت أساساً بنينا عليه فيما بعد المعرفة التي حصّلناها في دراساتنا وبحوثنا الجامعية. واكتشفت أن الدِّين يمكن أن يشكل حافزاً لأي انتماء سياسي – ولا سيما – أن في النص المقدس آيات تشير إلى معانٍ متباينة لعب فيها التأويل والاجتهاد دوراً كبيراً، ما ساعد على نشوء تيارات، ومذاهب وفِرَقٍ. وهو ما كان قد أشار إليه كلام للإمام علي: القرآن لا ينطق بذاته، إنما يحتاج إلى رجال، وهذا ما دفعني إلى الاستنتاج أن النصوص الدينية يمكن أن تشكّل ثروة فكرية لكن الآفة في الرُّواة. وعليه أُحمِّلُ رجال الدين، وليس الدِّين مسؤولية سوء التفاهم الحاصل حول قضية بناء الدولة لأن لرجال الدين مصلحة في الإبقاء على دولة داخل الدولة يكون لهم فيها حصة في المحاكم المذهبية، وفي وسائل الإعلام، وفي مكبّرات الصوت.

محمد علي مقلد
كاتب يساري من لبنان. أستاذ سابق في الجامعة اللبنانية
من مؤلفاته :
– الشعر والصراع الإيديولوجي، دراسة عن علاقة الشعر بالسياسة، دار الآداب، بيروت، 1996 .
– اليسار بين الإنقاذ والأنقاض، كتيب عن أزمة اليسار اللبناني ،2005
من ترجماته :
الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية ، ماكس فيبر ، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990
الجنسانية في الإسلام، عبد الوهاب بوحديبة، سراس للنشر ، تونس ،2000
أوهام الهوية، داريوش شاغان، دار الساقي، بيروت،1993
المعجزة في الاقتصاد، ألان بيرفيت ( بالمشاركة مع بسام حجار) دار النهار، بيروت،1997
المتوسط والعالم المتوسطي في عهد فيليب الثاني، فرنان بروديل، دار الكتاب الجديد، 2008
  

السابق
أودية الجنوب: مسرح عريق لمواقف تاريخية وحروب وتنمية وسياحة
التالي
الموسوي: مرسوم دعوة الهيئات الناخبة وفتح باب الترشيح إجراءات ميتة