النأي عن الإنتحار!

لم يعد ينفع الكلام المعسول، والمناشدات المنمّقة، في إقناع اللبنانيين، ولا الأشقاء العرب، ولا حتى الأصدقاء في العالم، بأن لبنان يلتزم النأي بالنفس في الأزمة السورية، ويحرص على عدم  التدخل في الصراع الدائر بين النظام والمعارضة، وذلك في الوقت الذي تشهد التطورات اليومية في الحرب السورية، على مدى تورّط بعض الأطراف اللبنانية، عسكرياً وسياسياً.. وديبلوماسياً!
ولم يعد خافياً على أحد من اللبنانيين، أن التورّط المتزايد في المحنة السورية، يزيد من أجواء التوتر والاحتقان الداخلي، على  طريقة صبّ الزيت على النار، كما يفاقم حالة الإحراج والارتباك، التي تعانيها الحكومة في علاقاتها العربية والدولية، والتي تُهدّد البلد بأوخم العواقب على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية، وحتى الوطنية!
لقد أثبتت التجارب الماضية أن سياسة التشاطر، والتي تصل أحياناً إلى حد التكاذب، لا تجدي في إخفاء الحقائق، أو تضليل الرأي العام المحلي، أو الخارجي، وإخفاء ما يجري على الأرض، تحت مراقبة الأقمار الاصطناعية، وعبر تنصت أجهزة البواخر الحربية التي تزرع شواطئ المنطقة ذهاباً وإياباً ليلاً ونهاراً، بمعرفة ورضى القوى والأطراف التي تحاول إخفاء تورطها في المحرقة السورية!
والتحذيرات الخليجية لم تأت من فراغ، ولا هي من باب التجني والافتراء، بقدر ما كانت نتيجة معلومات ووقائع موثقة، عن حجم تدخل «حزب الله» في المواجهات السورية اليومية، فضلاً عن خروج لبنان عن الإجماع العربي في الاجتماع الأخير لمجلس دول جامعة الدول العربية، عندما فاجأ وزير الخارجية عدنان منصور المجتمعين باقتراحه إعادة مقعد سوريا إلى النظام عوض إعطائه للائتلاف المعارض!
وقد لا نُذيع سراً إذا قلنا أن «الإنذار الخليجي» الذي حمله الأمين العام لمجلس التعاون إلى رئيس الجمهورية، لم يكن نتيجة تلك المواقف السياسية والأمنية وحسب، بل واستناداً إلى «نشاطات تقوم بها جماعات لبنانية وتشكل خطراً على الدول المتواجدين فيها»، مما يعني أن التورّط اللبناني لا يقف عند الأراضي السورية، بل يصل إلى داخل بعض الدول الخليجية، التي لن تتهاون في اتخاذ كل التدابير التي تراها مناسبة للحفاظ على استقرارها وأمن مواطنيها!

المشكلة في أن الدولة تعاني من حالة انفصام في الشخصية، كما في الخيارات والقرارات!
وأصبح واضحاً أن الثلاثي الذي يضم رئيسي الجمهورية والحكومة والزعيم وليد جنبلاط في وادٍ، وبقية مكونات الحكومة، التي تضم «حزب الله» وحركة أمل والتيار العوني، في جهة بعيدة أخرى، محورها العلاقات التحالفية مع دمشق وطهران، في حين أن «الثلاثي الوسطي» يحرص على الحفاظ على ماء الوجه مع الأشقاء العرب والأصدقاء الأوروبيين!
قد يُراعي المجتمع الدولي، ومعه الأشقاء، هذا الخلل الحاصل في عدم تطبيق سياسة النأي بالنفس إلى حين، وضمن ظروف وحدود معينة، أما أن يعتبر بعض اللبنانيين إن بمقدوره خداع العرب والدول الأخرى بشعار النأي بالنفس إلى أبد الآبدين، فذلك وهمٌ آن الأوان للخروج منه، واحترام قدرات الآخرين على معرفة الحقائق، والاعتراف بحقهم في الحفاظ على أمنهم ومصالحهم!
ويبدو أن ساعة الحقيقة تقترب أسرع مما يتصوره بعض اللبنانيين المتورطين في المسألة السورية، ولكن الطامة الكبرى تكمن بأن البلد كله سيتحمل تداعيات ومضاعفات العواقب الوخيمة الناتجة عن هذا التورّط ، والتي قد تصل إلى اتخاذ تدابير شديدة بحق اللبنانيين، أو حتى فرض عقوبات اقتصادية قاسية على البلد، تُفاقم حالة التردي الاقتصادي والمعيشي التي تهيمن على حياة اللبنانيين!
لم يعد الوقت يعمل لصالح الوطن المعذّب وشعبه المسكين، ولكن أهل الحل والربط لاهون عن الوجع الأساسي، بالمناورات الناشطة على كل صعيد، للبحث عن «الصيغة المناسبة» لتأجيل الانتخابات، من دون أن يتحمل وزر التأجيل طرف سياسي لوحده!!
ويضاف إلى كل ذلك، مخاطر انفجار التوتر الداخلي، خاصة مع تزايد الضغط العسكري على طرفي الصراع في سوريا، ومحاولة النظام وحلفائه فرض سيطرتهم على المناطق الحدودية في الشمال والبقاع، إلى جانب عودة السخونة إلى جبهة التبانة وجبل محسن، والتهديدات الدائمة لأهالي طرابلس والشمال بالويل والثبور، بسب مناصرتهم الثوار السوريين!
التفلّت المتزايد، والتحديات المتناسلة التي تواجهها الدولة، تضع البلد كله على حافة الانهيار، وتدفع اللبنانيين إلى أتون الانتحار الجماعي، وكأن أحداً لم يتعلّم شيئاً من دروس وعِبَر الحروب الانتحارية القريبة منها والبعيدة!
فهل تستطيع الحكومة النأي باللبنانيين عن الانتحار… بعدما عجزت عن تطبيق سياسة النأي عن النار السورية؟

السابق
أوباما، تفضّل إلى لبنان
التالي
هيفا تختفي وتشغل معجبيها