متحف أبو الفكر يؤرشف بلدة شقراء بالصورة

الصور حكاية لم تنته قراءتها ولن تنته يوما، فالصورة بمنطق أهل القرى هي "بنك ذو حسابات سرية" لا يملك أرقامها إلا من عايشها، وبمنطق الحداثة "عبور الى التاريخ بعين الحاضر ورؤية المستقبل" وبمنطق أبو الفكر هي رحلة إستكشاف التراث الإنساني كما في "متحف أبو الفكر" في بلدة شقراء، مقدماً نموذجا مختلفا عن التاريخ الذي يروق لكثيرين لكي يقرؤون الجانب الذي يروق لهم.
شقرا بلدة جنوبية تقع على كتف وادي الحجير، بركة شقراء تستقبلك قبل أن تطل عليك صور بألوانها الأبيض والاسود نصًبت نفسها "أميرة" على جدران الشارع في جانبيه، الصور التي تجادل نفسها ببريق زمن غابر وماضٍ وحاضر تُعرفك على "شقرا" في لحظات، تكمل الطريق وإذ بصور أخرى لشخصيات من شقراء بعضها بكوفيته، وأخرى بقبعة والتاريخ يسرد نفسه، التراث يحضر، إمرأة تخبز بالتنور…رجل يحرث أرضه بالفدان…أطفال في بركة شقرا…شبان في حقول التبغ..إسكافي وحداد عربي…حفلة زجل وتطول معالم الصور التي تؤسس لذاكرة مكان وفلسفة أجيال. تشاهد وتقرأ بصمت فيما سؤال واحد فقط يقتحمك أي معرض هو أنت أمامه، بل كيف كتب هذا المعرض نفسه على الطريق، ومن هو صاحب الفكرة وماذا يريد؟

بحثا عن صورة
وحده متحف أبو الفكر للتاريخ الإنساني ينبش لك أسراراً وأجوابةً على تساؤلات وقعت في داخلها، محمد العلي الرجل الستيني الذي طلقّ العمل باكرا… يستقبلك مع ضحكة متفذلكة بروح "الفكاهة"، من خلفه تقفز اليك مئات الصور الذي كرَس وقته لكي يجمعها ويُهندسها بإطار ثم يعرضها لينبش عبرها واقع حياة مضى الزمن عليها. "فالذاكرة تخوننا وغالبا ما نطمس تراثنا بجهلنا والتراث هو المستقبل، لذا أبيت إلا أن أجمع الصور ذات المغزى التاريخي" يقول.
ومعرض "أبو الفكر الإنساني" الذي وُلد عام 2012 لم يكن وليد لحظته بل جاء نتيجة لرغبة في التألق والفرادة عند العلي، فكان يحمل الصور تحت الإبط يجمعها من كل حدب وصوب يطرق الأبواب بحثا عن صورة قديمة وأخرى تراثية، لم يكلَ يوما رغم إستهزاء الناس بما يقوم به "شو بدك فيهن" قالوها له ولكن الإصرار "ولد حالة من المثابرة والمكابرة" على حد تعبيره "على خلق نمط جديد من عالم حكايا التاريخ. فجمع اكثر من 3500صورة، تؤرخ لسيَرٍ وتاريخ وجغرافية وتراث وشخصيات بلدته شقرا الجنوبية.

وهو يعتبر واحدا من أبرز متاحف "الصورة القروية"، كونه يرصد ذاكرة قرية ويؤرخ لتاريخها وثقافتها وحتى تقاليدها… بصورة وبضع كلمات تحاكي الجوهر، واللافت في المتحف انه يقدم رصيداً غنياً من المعارف التي تُحيي معالم زمن بكامله، فالصور عند أبو الفكر لا تنته وكل منها يحمل قضية وحكاية "الأرض، الحراثة، سيارة بو دعسة، التنور الإسكافي الحلاق وغيرها من أدبيات القرية القديمة، وكأنه يقيم حلقة وصل بين فكر وأخر، بطريقة مبسطة يكفي ما قدمه من جدلية الألقاب وصياغة الأسماء والمزارات السياحية في بلدته، بطريقة فكاهية متفذلكة "وضعت الألقاب في خانة الموروثات، اللقب يلازم الشخص أبدا، فشقرا فيها أكثر من 90 لقباً: جمل، أسد، نمر، قرقور، جمل، حصان، ثعلب وغيرها، وهذه "الألقاب جمعتها في مقال واحد بنفحة فكاهية طغت عليها روح الدعابة وقدمتها للقارئ".

معالم خالدة
لم يتوقف "النكتجي" في شخصيته عند هذا الحد بل "قدّم بوفيه ستي الختيارة على طبقٍ من مطبخ إيام زمان ابو شاشات (فوارغ) أبو خسة، بقلة، زغلول، كوساية، بقلة وغيرها في قصيدة" واكثر يقول "شقرا تمثل اكبر من العالم بحجمها نصف الدنيا فيها هند، تركيا، أسيا، غاندي، غيفارة، احمد شوقي، مي جبران، رامي".
…يدير أبو الفكر محرك بحثه حول ما خفي من معالم شقرا السياحية هذه المرة، يتوقف ليسردها بدعابة مقال "عندنا معالم سياحية خالدة مثل جل الكشكي، معلم مشهور وهو "كناية عن مكب"، مزبلة سيفو، مغارة كرم، مغارة بدوي" وهذه المعالم لسيت سوى "مكبَات نفايات" يعلق…من على نافذة العالم يطل ابو الفكر عبر شعار شقرا اكبر من العالم. وأكثر ما يميز ابو الفكر انه خلق شخصية يحوم حولها الإعجاب.

لا يسع الزائر الى متحف "ابو الفكر" الذي يسرد شخصيات وتاريخ شقرا، إلا أن يستشرف بعضا من كتابة التاريخ بطريقة مبسطة جدا، إذ حرص أن يقدم نوعا أخر من الإبداع والتفرد بحد قوله "أنا أحب التميز والفرادة ولا أريد تقليد أحد" أميز نفسي بفن لم يطرق بال أحد"، لقد أنطق أبو الفكر صوره دفعها لتتحدث بكلمات يقول أنها "لدي كتاباتُ إبداعية الكل يشيد بها"هذا كان دافعه ليطلق أبو الفكر "معرض شارع وحكاية زمن التاريخ الإنساني" تتعرف من خلاله على الحركة الثقافية التي كانت سائدة وقتذاك كلما تعمقت بالـ3500 لوحة من معرض أبو الفكر كلما ادركت قيمة الماضي الذي يقدم دافعاً لتطوير الحاضر، وكأنك تعيش جدلية زمن يعبر إلى أخر بصورٍ أبَى أبو الفكر إلاّ أن يرصدها لتكون شاهداً حيّاً للمستقبل.


معارض ومهرجانات
يُنصّب "أبو الفكر" نفسه حارساً على تراث الصورة "هي أمانة برقبتني، فأنا أعبر بشقرا من مرحلة الى أخرى عبر الصورة"، لا يترك أبو الفكر صورة "تفلت منه هناك صورة لمسجد شقرا 1938 كانت مرمية على الأرض عند احد الأفراد أخذتها ووضعتها تحت دائرة الوهج، فأنا أول من كتب أبجدية الصورة ووضعها في دائرة التآلق"، وهذا كان حافزه ليقيم أول معرض له "مووايل الزمن المسافر" الذي ضم 275 صورة جماعية و500 صورة فردية، "فالموال يعبر خلسة" يقول لافتاً الى أنه "شمل صوراً من القرية وكان بمثابة بوابة الدخول الى صور الناس، الذين بدأو يقدمونها لي بعد حالة الإزدراء التي راودت فكرتي بداية، وبعدها بدأت تتنامى القصة، وبنيت قاعدة مجتمعية أثبتت جداوها"، وتوسعت الفكرة وكبر المولود فأصبح يانعا مع "ضفاف الذاكرة" الذي يقول عنه "أنه "أبعد من صورة، أخرجت أسماء عابرة بتاريخنا "أول فرن، أول تنور، أول داية، أول بلدية، أول شرطي بلدي، صنعت من الأسماء والألقاب مقالة أٌعجب بها الكثيرون" ويضيف "من يتعلم قراءة الأحرف يكتب جملُ ثم قصة، ثم يكمل نقش الفكر بالعلم والمعرفة" ، ثم كان مهرجان "الإيام الخالدة" وأخر العنقود كان متحف "أبو الفكر للتراث الإنسان إفتتحت عام 2012 يضم 1200 لوحة متنوعة الأفكار.
لقد ركز أبو الفكر على الشخصيات البارزة والمؤثرة عبر الكون ذات التأثير الإنساني، وكل ما يرتبط به "لأن للأمر علاقة وثيقة بقراءة السيرة التاريخة لبلدته" يقول وهو "الذي يفتخر أنه تمكن وبمفرده من أن يؤسس لمعرض بدأت فكرته تتصاعد وتزحف بين القرى والبلدات، "ما أقدّمه نموذج حر من العمل الفني المختلف، أجيّره لخدمة افكار"ألتراثي-الفكري"، يجهد أن يكون "بوابة للعبور الى إئتلاف الأجيال في فكر بعيد عن إفتراضية الصورة" بحسب تعبيره، يمضي وقته بين جمع الصور وتدوين الملاحظة وأرشفتها، لم يثنه شيئ عن التراجع عن مشروعه بل شدَ وزره أن ما "أقوم به رسالة فوق حصار الإندثار". لأن أبو الفكر أبَى إلاَ أن يرصد الذاكرة بصورة ويطوعها لكي تكون الوسيط بين جيلين يحوك عبرهما سياسة من نوع جميل اصلها صورة وفرعها تاريخ يجادل الأفكار بعبارة من وحي الزمن.
نجح أبو الفكر في عرض فكرته التي وإن لم يكتب لها الشهرة أو الإنطلاق خارج إطار شقرا، فهو يثق أن "يوماً ما ستنتشر وتنطق كل قرية بتاريخها عبر صورها" ففكرته المستقبلية ، شقرا كلها تحت مجهر الصور، سأعلق الصور على أكثر من 40 جدار . باختصار متحف أبو الفكر صورة تؤرشف لتاريخ بلدة فهل تنتشر هذه العدوى في القرى..
  

السابق
بعض من صفات المرأة الخائنة
التالي
لن أتراجع يا ولاد الخنازير