حرب سنّية- شيعية شاملة في المنطقة (3)


أشرنا في حلقة السابقة إلى أن تفجير الحروب الاهلية المذهبية في أنحاء الشرق الأسلامي، كانت الطريقة الأمثل لتوجيه سهام " الارهاب" بعيداً عن صدور الغربيين وقريباً نحو صدور الشرقيين. وبما ان ألاسلام منشطر الى سنّة وشيعة منذ نيف وألف سنة، كان من المغري كثيرا طلي تباين الاجتهادات بينهم باللون الاحمر القاني. والمدخل إلى كل ذلك كان، ولايزال، العراق.
لكن، لماذا العراق؟
في 8 آذار/مارس الحالي، ألقى المحلل البريطاني في "فايننشال تايمز" ديفيد غاردنر بعض الأضواء على السبب، حين ركَّز على النقاط التالية:
– التحالف الغربي، بدخوله العراق وتفكيكه، قلب موازين القوى في أكثر مناطق العالم التهابا، ليس لأنه أطاح نظام حسين، بل لأنه أوصل الأقلية الشيعية في داخل العالم الإسلامي (والتي هي أغلبية في العراق) إلى السلطة في قلب المنطقة العربية للمرة الأولى منذ سقوط الخلافة الفاطمية العام 1171.
– وهذا، إضافة إلى أنه أسفر عن حمام دم في العراق، أشعل مجدداً نزاعاً عمره ألف سنة بين السنّة والشيعة، امتد من المشرق العربي إلى شبه القارة الهندية.
– أحداث العراق غيَّرت بالفعل مقومات المنطقة، وهي كانت أخطر بكثير من مضاعفات حرب السويس العام ،1956 لأنها أعطت زخماً لكل ألوان وأنواع الحركات الإسلامية.

تحليل دقيق؟
أجل. لكن، يجب ان نضيف إليه عاملاً آخر لايقل أهمية.
فأرض العراق في الواقع رأس جسر ممتاز ونموذجي لتفجير العالم الأسلامي من داخله، لأنها كانت المسرح الرئيس للمأساة التاريخية لآل البيت على يد الأمويين. كما أنها كانت ساحة المعركة الرئيس بين العثمانيين والصوفيين طيلة قرنين من الزمن ( العراق آنذاك كان يصبح صفوياً فارسياً في الشتاء، وسنّياً تركياً في الصيف! ) .
القسمة الدموية السنية – الشيعية انطلاقاً من العراق منذ غزوه العام 2003، حققت، وستحقق أكثر، جملة أهداف إستراتيجية غربية دفعة واحدة. فهي شطرت الشرق الاوسط الكبير الى شطرين كبيرين متناحرين. وهي جعلت إيران في حال صدام ليس مع أميركا وحسب، بل (مجدداً ) أيضاً مع تركيا وباقي اطراف الغالبية السنّية في العالم الإسلامي. وبالطبع، حين تحاصر جمهورية الخميني على هذا النحو، لن يطول الوقت ( مجدداً أيضاً ) قبل ان تبدأ البحث عن حلفاء لها في الغرب. وهذا بالتحديد ما فعله الصفويون طيلة القرنين 18 و19.
وأخيرا، حروب السنّة والشيعة قد تقلب صورة الصراع مع إسرائيل رأسا على عقب. ويكفي للتدليل على ذلك تخيلّ، مثلاً، مصير مواجهة " حزب الله " المصيرية مع إسرائيل، إذا ما جرّه الغرب الى صراعات طائفية مع السنّة في لبنان وسوريا.

الغرب، مراكز أبحاث كما مؤسسات سياسية، يمارس هذه الأيام " سياسة تاريخية" (إذا ما جاز التعبير) في العراق وبقية العالم الأسلامي. سياسة تنطلق من الحقيقة بأن الحرب الاهلية السنّية – الشيعية في القرن الاول الهجري أدت إلى أول شرخ ضخم في جسم الامة؛ وإلى إغلاق باب الاجتهاد لدى السنّة في القرن الثالث عشر الميلادي، وإلى التقية والتقوقع لدى الشيعة.
كما أدّت إيضاً إلى الحروب العثمانية – الصفوية التي اعترف كبار المفكرين الأسلاميين الأيرانيين، وفي مقدمهم علي شريعتي، بأنها كانت الخطأ القاتل الأكبر في تاريخ بلادهم .
كل هذه الأحداث المأساوية أسفرت، كما هو معروف، عن شل طاقات الامة وجعلها لقمة سائغة أمام الأجتياحات الخارجية، بدءاً من الصليبيين والمغول، مروراً بحروب الأندلس والبلقان، وإنتهاء في العصور الحديثة بالأجتياحات الأستعمارية الأوروبية .
لولا الحروب الاهلية السنّية- الشيعية ، لما أصيبت الحضارة الأسلامية بالجمود والمراوحة في المكان والزمان ( عند السّنة )، والتقوقع ( عند الشيعة ) . ولولا هذه الحروب، لما سيطر المتطرفون من كلا الطرفين على جداول الأعمال السياسية والأيديولوجية طيلة اكثر من ألف
عام .
آثار أقدام "السياسة التاريخية " الغربية مبثوثة في كل مكان، وهذه بعض ملامحها في الولايات المتحدة:
مارتن كرامر( باحث في " موسسة واشنطن لدراسات الشرق الأدنى): " في معظم الأمبراطوريات الديناميكية الأسلامية، عقد لواء الحكم للأقليات. والآن، رسالة الدمقرطة( من ديموقراطية) هي أن حكم الأقلية بات من مخلفات الماضي، وهذا سيعني بالنسبة للشرق أوسطيين تغيّر موازين القوى بين محتلف المجموعات الطائفية والأثنية، وإطاحة هرميات إجتماعية أقيمت قبل الف عام عبر الصراعات الداخلية".
هل هذا سيعني نسف مقومات الدول الراهنة في المنطقة؟
كرامر يرد بالأيجاب بسرعة، منطلقاً من " نموذج " العراق، " حيث سكان المثلث السنّي يحبون قبائلهم، وبدلاً من الديموقراطية يفضلون حكم الشيخ على رأس كونفدرالية على النمط القبلي. وحيث الشيعة يميلون إلى حكم رجل دين معمم. ما تريده هذه المجموعات هو حق " الحرية الجماعية " المشفوعة بإنحسار الدولة. على الولايات المتحدة، برأي كرامر، "الأعتراف بإستقلالية المجموعات الأجتماعية والدينية والطائفية".
سونر كاغابتاي( رئيس " برنامج الأبحاث التركية " الاميركي): الاسلام لايزال منغمساً في تاريخ الشكوك العميقة بين الطائفتين السنية والشيعية. ولذلك، وقبل الدعوة لقيام حوار بناء بين الأسلام والغرب، على المسلمين أولاً إحترام بعضهم البعض. بكلمات أوضح، الطريق إلى توازن إقليمي بين الأسلام والديانات الأخرى، يمر عبر محاولة إقامة السلام داخل الأسلام ".
موشي ماعوز( مؤسسة واشنطن لدراسات الشرق الأدنى ): " الأقليات الدينية والأثنية أثرّت بشكل عميق على التطورات في الشرق الأوسط طيلة القرنين الماضيين. وما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة هو أن تشجع وتدعم تشكّل تحالفات بين هذه الفئات إستناداً إلى أنظمة فيدرالية ديموقراطية".
والي نصر ( باحث في " دراسات الشرق الأوسط ") : التمرد( المقاومة العراقية) جذب المتطرفين من كل المنطقة العربية إلى الجهاد ضد اميركا. لكن جوهر المسألة يكمن في الواقع في الحرب التي تعود إلى قرون عدة، بين السنّة والشيعة. وهذا أمر "أُجبرت " أميركا على الأعتراف به اخيراً، ومعه الأعتراف بمركزية الحقائق الطائفية".

كيف ترجمت هذه " السياسة التاريخية " الغربية نفسها على المستوى العربي؟

السابق
شربل يطمئن الجالية اللبنانية حرص السعودية والامارات على وجودها
التالي
حرب سنّية- شيعية شاملة في المنطقة (4)