بـدّك تتعـوّد

مضت أيام عدّة لم أستخدم فيها المصعد. سوء تنظيم الوقت هو السبب، وليس الرغبة في التمرين. كل ما في الأمر أن أوقاتي تتضارب مع أوقات شركة الكهرباء.
أشعر أن شركة الكهرباء تستهدفني شخصياً: حين ينتهي يومي قبل السادسة مساءً، يكون التيّار مقطوعا، لـ«يتنعّم» به غيري في المنطقة المحاذية لمنطقتنا. يستطيع هو استخدام المصعد، أما أنا فلا. وحين يمتد يومي بعد السادسة، يحصل الأمر نفسه! أما حين «تنقش» معي وأصل قبل بضعة دقائق من انقطاع الكهرباء، فيتسنى لي أن أعيش لحظات المغامرة مترقباً انقطاعها وأنا في المصعد.
أصل لأجد أن الأنوار «مشعشعة» في كل أرجاء المنزل. كأن توفّر كهرباء الشركة يتطلب المبالغة في استخدامها احتفالا بها. دقيقة فقط، وتنقطع مجدداً، ليحين دور «الاشتراك». وبما أن قدرة المولد الخاص ضعيفة، رغم كلفته المرتفعة، فلن يتحمّل «أمبيرات» (وحدة) المصابيح المنارة. ينقطع «الاشتراك»، فأضطر للنزول والصعود على الدرج، لـ«تك الديجانتير» (تشغيل المحول).
مسألة تنظيم الوقت والحياة اليومية، والتأقلم مع الأوضاع الراهنة لا تقتصر فقط على انقطاع الكهرباء. ازدحام السير مثل آخر على ذلك. بدايةً، كان الـ«سرفيس» إحدى الوسائل المتاحة، ومع غلاء تسعيرته، أصبح الـ«فان» (الحافلة الصغيرة) هو الملاذ. ثم تطلّبت الـ«عجقة» خطوة أكثر جذرية: اقتناء دراجة نارية. لكنها لم تنفع أيضاً، فالـ«عجقة» تستطيع تطويع أي وسيلة نقل. التأقلم مع هذا الوضع يكون من خلال تفادي ساعات الذروة، وهو أمر لا يمكن أن ينجح غالباً، فكل ساعات النهار ذروة.
النقل والكهرباء يجسدان مشكلتين بسيطتين ربما، بالمقارنة مع المشاكل الأخرى الأكثر أهمية، كغلاء المعيشة، وعدم توافر فرص عمل، وتردي الأوضاع الأمنية، وفواتير الاستشفاء الباهظة… يصير التأقلم مع هذه الأوضاع، بدلاً من المطالبة بتغييرها، هو الحل. والمطالبة بالحقوق الطبيعية، تتحول تدريجيا إلى ما يشبه «التذمر» المفرط أو «النق»، الذي يواجه غالباً، من أصحاب المعاناة نفسها، بوجوب «التعود» على الأوضاع. «شو مفكر حالك عايش بأوروبا» جواب سائد، لا تنافسه إلا العبارة السحرية: «يلي بشوف مصيبة غيره، بتهون مصيبته»، التي تحوّل معناها إلى دعوة للإذعان والصمت.
في حوار جمع بين ممثلين عن الهيئات الاقتصادية وممثلين عن هيئة التنسيق النقابية، حضر إلى جانب الهيئات ممثل عن لجان الأهالي في المدارس الكاثوليكية. أبدى الرجل تخوّفه من أن إقرار سلسلة الرتب والرواتب سيرتد في نهاية الأمر على الأهالي، من خلال رفع أقساط المدارس. والحل بالنسبة له هو وضع حد للتحرك المطالب بحقوق الأساتذة والمعلمين، بدلاً من الاحتجاج والتحرك رفضاً لزيادة الأقساط المدرسية التي لم تتردد إدارات المدارس برفعها مرارا لزيادة أرباحها! حينها، رد حنا غريب، رئيس رابطة المعلمين في المدارس الثانوية الرسمية، مطالباُ الأهل برفض قرارات المدارس زيادة الأقساط، فـ«المشكلة تكمن في سياساتهم وليست في مطالبنا».
بدا رد غريب خارج السياق، ولا يتماشى مع المنطق الذي يتبعه الأهالي الذي وقف من يمثّلهم إلى جانب الهيئات الاقتصادية. فالأسلوب المتبع في مواجهة زياد الأقساط، عادة، يقتصر على استعجال الأهل إعادة حساباتهم السنوية، لمعرفة السبل التي تسمح بتأمين المبالغ الإضافية، أي باختصار: التأقلم مع التسعيرة الجديدة بدلاً من رفضها.
أسلوب تأقلم ينطبق على حساباتنا اليومية في كل شيء، بدءاً بالانشغال بتنظيم حياتنا وفقاً لها، كالعودة إلى المنزل في الوقت المناسب وعدم الاضطرار إلى «قطع الأنفاس» بالصعود على الدرج، أو استطلاع الانترنت لتحديد أوقات انقطاع الكهرباء، والاستماع إلى «الراديو» لمعرفة الطرقات المزدحمة، أو المقفلة بسبب مرور موكب أحد المسؤولين، لتفادي سلوكها. حسابات كثيرة ومشاكل يومية تستنفد وقتنا وطاقتنا للتأقلم معها، ومحاولة تطويع أنفسنا في مواجهتها. أسلوب وإن كان يشي بالقدرة على الصمود والتحمّل، لكنه ينطوي أيضاً على قبولنا بالتحول إلى متلقين فقط، ننتظر ما سيملى علينا بترقب، متمنين اجتياز التحدي الجديد بأقل خسائر ممكنة، من دون أي استنكار أو رفض أو غضب. فالغضب سيستهلك طاقتنا ويحد من قدرتنا على مواجهة ما هو أعظم… بالطريقة نفسها.
بدلاً من «الحربقة» والتشاطر في اقتناص أوقات عودة الكهرباء للصعود في المصعد، وبدلاً من «الزوربة» هرباً من زحمة السير، وبدلاً من اقتناء دراجة نارية لتسريع التنقل والتوفير في أسعار المحروقات، لتفادي الغضب على الأوضاع المزرية، يبدو أن قليلا منه صار واجباً للتذكر بأن «الحربقة» و«التأقلم» و«التذاكي»، مهما نجحوا في تأجيل مواجهة المشكلة، سيصلون بنا إلى طريق مسدودة. طريق لا تختلف بشيء عن تلك التي لا يبالي مسؤول بإغلاقها، لعدم تعكير مزاجه ويومه، مقتنعاً بعدم اضطراره إلى القيام بواجبه، طالما أن الذين يقودون سياراتهم سينتظرون مروره، لمتابعة معركتهم اليومية، ثم العودة إلى منازلهم… قبل انقطاع الكهرباء.

السابق
قيود اسرائيلية على مصلّي المسجد الاقصى
التالي
معركة على الأوقاف