في ذكراها الثامنة، كيف سقطت 14 آذار؟ 

إنه 14 آذار. ذاك اليوم الذي لن ينتسى ولن يتكرر في تاريخ لبنان. لا بسبب تظاهرة شعبية بحجم غير مسبوق، ولا لرجحان كفة فريق في الصراع على آخر، ولا لكونه حدثاً مفصلياً في تاريخنا الراهن، بل لأنه كان الفرصة التي لا يمكن أن تعود مرة ثانية والخطأ الذي لا يمكن أن يصحح أو أن تكون عنه عودة أبداً. وللحق والأمانة والتاريخ، سيظل السؤال مطروحاً: من كان المسؤول؟؟
في الذكرى الثامنة تكفي استعادة مكونات ذلك السياق الاستثنائي: قبل 9 أيام، كان بشار الأسد قد أعلن انسحاب جيشه من كل لبنان. وقبل 6 أيام كان السيد حسن نصر الله قد أعلن فهمه تلك الخطوة وأخذه بمفاعيلها واستخلاصه عبرها وفتحه مرحلة جديدة في التموضع والمقاربة والأداء. وكانت الساحات متقاربة، متفاعلة غير متنافرة، خائفة بمجموعها، لا مستقوية ولا مستكبرة. كان كل اللبنانيين في جهوزية للتوافق وفي نفاذية لقبول الآخر وفي قلق كاف للإدراك الذاتي على الأقل، بأن أياً منا لا يملك الحقيقة المطلقة ولا يقدر على الخلاص بمفرده ولا على الحكم المتفرد. كانت لحظة شفافية فردية معممة على شعب اكتشف مفهوم كونه شعباً للمرة الأولى. كانت شرارة خلق قابلة لأن تكون رحماً لأخصب التلاقح الخيِّر… ولا من يفكر بإجهاض الحدث.

تصوروا تلك اللحظة: إسرائيل مدحورة قبل نصف عقد، سوريا خارج لبنان جاهزة للقاء خيمة جديد، فيما كل اللبنانيين في الشارع، متلهفون للحظة استقلال جديد جدي. الأمين العام لحزب الله مستعد لمناقشة أي شيء، من دون شروط ولا أي مطلقات أو استثناءات، ما خلا صدق النية ومصلحة الجميع العليا، بلا غدر ولا ثأر. فيما البطريرك صفير في واشنطن، في البيت الأبيض بالذات، بعد أعوام قليلة على مقاطعة ذلك البيت له، وعلى الاكتفاء بانتداب موظف من الدرجة السادسة في الخارجية الأميركية لاستقبال «مجد لبنان»، وعلى تهكم ساترفيلد على خرافة سيادة بلد الأرز، وتنطحه مع كل إدارته لمواجهة مشروع «قانون استعادة السيادة اللبنانية» وإسقاطه. بعد كل ذلك، دخل صفير إلى المكتب البيضاوي لحظة كان مؤمنوه في الساحة. وكان جورج بوش أكثر من مضيف، بل مضياف. حتى إنه انتبه إلى حشر ثلاثة من ضيوفه على كنبة واحدة، فهبّ بنفسه، هو من كان لحظتها حاكم العالم وهنيبعل القرن الجديد، ليحمل كرسياً إضافياً، وهو يردد ببسمته الصفراء الفارغة: «يهمّني جداً أن تكونوا مرتاحين هنا»… حتى إذا ارتاح الضيف الختيار، فاجأ صاحب البيت بالدفاع عن حزب الله، ورفض أي مقاربة خارجية أو عنفية لسلاحه، واعتباره سلاح مقاومة وشأناً لبنانياً داخلياً، لا يقاربه إلا اللبنانيون ولا يفعلون إلا بخلفية البحث عن مصلحة لبنان وزيادة عناصر قوته ومنعته…

في تلك اللحظة بالذات، كان الهاجس الأساسي لمن تحولوا «بلطجية المنبر» في ساحة الشهداء يوم 14 آذار، كيف يحولون دون وصول صوت ميشال عون إليه. منذ الصباح، كانت المفاوضات دائرة بينهم وبين جماعته. وكان البحث قد غرق فعلياً في دوامة من المماحكات. بين «صعوبات تقنية»، وبين «اعتبارات بروتوكولية»، وبين محاولات تذاكٍ لمعرفة مضمون ما قد يقوله سلفاً، وبين تسويف ومماطلة وتهرب… في تلك اللحظة التاريخية، وسط ذلك التقاطع الاستثنائي للأحداث والمواقف والاستعدادات والموازين، كانت الحسابات منصبة في مكان ما، على نقطة واحدة: ممنوع على ميشال عون أن يتكلم اليوم. ونجحوا! عند استحقاق اللحظة، أخفي صوته، استعيض عنه بكلمة لممثله نديم لطيف، فيما حضر سمير جعجع عبر زوجته التي حضرت بممثل لها ألقى كلمة تصلح لأي مناسبة. بينما «أخت الشهيد» تواعد سوريا على اللقاء. في آخر ذلك النهار، ولولا عنفوانية جبران تويني، لبدت التظاهرة الحاصلة كأنها لمنبر غير الذي لاقاها، أو لبدا الخطباء المنبريون كأنهم كومبارس لتظاهرة غير التي اجتاحت بيروت ذاك اليوم…

بعد أيام قليلة، بدأ ينجلي غبار حسابات الطبقة الحاكمة الجديدة ـــ القديمة: جاء السفير الإيراني في فرنسا سراً إلى بيروت بحماية استخبارات جاك شيراك. نسجت كوندي من واشنطن وغوردو مونتنيو من باريس لوحة مستقبلنا. وكُلف ممثلاهما، فيلتمان وإيمييه، بالتنفيذ. بدأ سعد الحريري يستعد لترجمة خطاب باسم السبع حول «آل الوحش» للقائد أحمد جبريل الذي استقبله بعد أشهر، وتابع وليد جنبلاط تفرغه لهواية البقاء حياً كل يوم، حتى صباح اليوم التالي. أما الفريق الدستوري القانوني التأسيسي لثورة الأرز فبدا كأنه انكبّ على ورشة وطنية كبرى لإعداد قانون يعفي الورثة من رسوم انتقال الملكية… بعد 8 أعوام، يُستعاد السياق بحسرة، بغصّة، بأسى وأسف ولوعة: فرصة ضاعت. بل هي «الفرصة» قد ضاعت. تبقى منها عبرة وحيدة، تلك التي قالها مسؤول روحي قبل أعوام طويلة عن ناسه ووجعهم: قضية كبيرة، حُمّلت لرجال صغار، فأسقطتهم وأسقطوها.

السابق
لبنان المحكوم بالإعدام
التالي
طرابلس ولغة الملح