حرب سنّية- شيعية شاملة في المنطقة (2)

أشرنا بالأمس إلى أن "الحرب الأهلية الإسلامية" الراهنة بين السنّة والشيعة لاتجري في فراغ، بل في إطار تخطيط أو على الأقل توجهات أميركية- إسرائيلية، وسنقول اليوم لماذا.
في أواخر آذار مارس 2006، أبتعثت " لوموند" موفداً إلى بغداد لدراسة جوانب الوضع العراقي، خاصة منه إحتمالات الحرب الاهلية. بعدها أيام قليلة، كان الموفد يرسل أولى تقاريره مشفوعة بالخلاصة الآتية: " اميركا في العراق( وبالتالي في باقي الشرق الاوسط الأسلامي) إكتشفت سلاحاً أخطر من أسلحة الدمار الشامل: الحرب المذهبية داخل الاسلام، بين السنّة والشيعة".
خلاصة مخيفة؟
بالتأكيد. لكنها حقيقية.
فالسؤال في المنطقة العربية والعالم الأسلامي الآن لم يعد: هل ينجح الغرب في تفجير اللغم المذهبي في العالم الأسلامي، بل إلى أي مدى، لأن اللغم انفجر بالفعل. ويكفي للتأكد التلفّت حولنا قليلاً . حينها سنصطدم سريعاً بجملة حقائق دفعة واحدة على كل الصعد الأكاديمية والأعلامية والسياسية، وبالطبع الفكرية والثقافية ، التي تصب في هذا الاتجاه.
على سبيل المثال ، إشتكى لكاتب هذه السطور مؤخراً صديق أكاديمي يعمل بروفسوراً في أحد جامعات باريس الكبرى، شكوى مرّة من إصرار زملائه الأساتذة الفرنسيين على توجيه طلابهم العرب والمسلمين إلى دراسة الطوائف والمذاهب والعشائر المفتتة لبلدانهم، بدل دراسة المفاهيم والعناصر الموحّدة للأمة والشعوب تاريخاً وحاضراً.
إستنتاج البروفسور : الجسم الأكاديمي الغربي يتحّرك إما بدافع إستشراقي – إستعماري كذلك الذي حذّر منه إدوارد سعيد، عبر تطبيق نظريات الأنثروبولوجيا على شعوب الشرق ( التي تتحّول حينها إلى حيوانات إختبار )، أو بحافز غير بريء هو خدمة سياسات القادة الغربيين التقسيمية الجديدة في المنطقة.
وعلى سبيل المثال أيضاً، نشر الكاتب البريطاني البارز مارتن وولاكوت مقالاً في"الغارديان" حمل العنوان المثير: " كيف أساء الغرب فهم الشرق ؟ ". لكن من يبدأ بقراءة المقال، سرعان ما يصدم حين يعلم أن سوء الفهم هذا يكمن، برأي الكاتب، في عدم تركيز الغرب على إستخدام الصراع السنّي- الشيعي كمفتاح لتحليل كل ما يجري في الشرق الاوسط.
وهكذا ، يفسّر وولاكوت كل ما يحدث راهناً في المنطقة على أنه مجرد صدام مذهبي، مروراً حتى بخلافات إيران الشيعية مع أميركا البروتستانتية !.

بالطبع، لسنا هنا في وراد نفي وجود خلافات او حتى الصراعات على السلطة بين السنّة والشيعة، خاصة في العراق. فهذه باتت الان، وبعد الكوارث التي حلّت بالقوى الحديثة من ليبرالية وعلمانية وقومية وماركسية، مجرد تحصيل حاصل.
بيد أن هذا شيء، وإعادة قراءة كل التاريخ الراهن على هدي الفتنة المذهبية، شيء آخر مختلف تماماً. هنا لا تصبح العوامل الداخلية هي وحدها الأمر الحاسم ، بل يناط الأمر أيضاً بالعوامل الخارجية. هنا يصبح لنظرية " اللاإستقرار البناء " الذي أطلقها الباحث الأميركي روبرت ساتلفوف وتبنتها الأدارات الأميركية المتعاقبة، معنى وحيداً: تفجير البنى الاجتماعية العربية، ليس لبناء الديموقراطية فوق أشلائها، بل لتأبيد الحروب الاهلية المذهبية "غير البناءة " فيها .
الأدلة؟ إنها أكثر من ان تحصى. وهذه بعضها:
— في صيف 2004، " نشر "مجلس العلاقات الخارجية" الاميركي، وهو اهم مركز أبحاث في الولايات المتحدة دراسة مطولة عن آفاق الحرب في بلاد الرافدين، خرج منها بالخلاصة الآتية: " العراق، وعلى عكس فيتنام، منقسم إلى سنّة وشيعة، الأمر الذي يخلق ميزان عداوات داخلية لا مقاومة واحدة، و"يغري " الولايات المتحدة لمواصلة التدخل هناك بشتى الطرق.
"يغري " الولايات المتحدة ؟.
أجل، ويغويها أيضاً. وهذا من طبائع الأمور السياسية، وسنن الحياة الدولية.
فإذا ما أرادت قوة خارجية غزو قوة محلية وضرب جهاز المناعة والممانعة فيها، ليس أمامها سوى خيار من إثنين: إما إلحاق الهزيمة الكاملة والماحقة من الخارج بالمجتمع المعني، وليس فقط الدولة، ودفعه إلى الأستسلام واليأس ( كما فعلت اميركا مع ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية) ، أو تفجير هذا المجتمع من الداخل ( كما فعلت بريطانيا في شبه القارة الهندية وفلسطين والملايو، وفرنسا في سوريا ولبنان وبلدان المغرب العربي).
وبما أن واشنطن لم تهزم المجتمع العراقي، فبديهي أنها عملت على تفجيره. وهذا البديهي هو الذي حدث، منذ أن حلّت الأدارة الأميركية الجيش ومؤسسات الدولة.
لا بل حدث إبان الاحتلال الأميركي ما هو أدهى من النسيان: معظم الأطراف السنيّة والشيعية العراقية، بما في ذلك حتى بعض فصائل المقاومة البعثية، تسابقت على كسب ود السفارة الأميركية، ثم اتهمت بعضها البعض بأنها السباّقة إلى هذا الود. هذا في حين كان المندوب السامي الأمبراطوري الاميركي زالماي خليل زاد ينغمس في حفر الأفخاخ السياسية والدستورية( والبعض يقول أيضاً الامنية " الزرقاوية " و " المهداوية " ) لكل هذه الأطراف كي تقع في النهاية في ما ليس منه مفر: الأنفجار المجتمعي الداخلي.

تفجير الحروب الاهلية المذهبية في أنحاء الشرق الأسلامي، كانت الطريقة الأمثل لتوجيه سهام " الارهاب" بعيداً عن صدور الغربيين وقريباً نحو صدور الشرقيين. وبما ان الاسلام منشطر الى سنّة وشيعة منذ نيف وألف سنة، كان من المغري كثيرا طلي تباين الاجتهادات بينهم باللون الاحمر القاني.
والمدخل إلى كل ذلك كان، ولايزال، العراق.
لماذا؟

السابق
الاحتفال بذكرى “14 آذار” تقسم على قسمين
التالي
دخان أسود في اليوم الأول من مجمع الكرادلة..والجميع ينتظر الابيض