خمس سنوات… رئاسية 

كان رئيس الجمهورية، يوم احتل موقع قائد الجيش، يشكو من أن بعض الصحافة يستهدفه بتشويه صورته وغموض مواقفه الازدواجية. أصرّ، حينها، على أنه مستمر بقناعاته مهما قيل عنه وستبرهن الأيام صوابية رؤيته.
بعد خمس سنوات على رئاسته للجمهورية التي تبوّأها من حيث لا يدري، لا بدّ من تقييم إنجاز الرئاسة قبل فوات السنة الأخيرة، علّ البعض لم يعطها حقّها. مراجعة بطريقة العدّ العكسي، بداية من اليوم، وقبل سفره إلى أفريقيا، رجوعاً إلى بداية العهد.
لا يمكن لأيّ عاقل أو مغترب في غرب أفريقيا إلا أن يرتاح لتلبية الرئيس الأول للدعوات الرسمية من الرؤساء الأفارقة، ولو بالضيافة على حساب الجاليات المجاهدة منذ أكثر من مئة عام، والتي تبرّعت بالتكاليف لرؤية رئيسها بعد غياب أجيال يطلّ على بلدانهم الثانية.
ولكن يتساءل البعض: ماذا عن لبنانيّي دول الخليج؟ ألم ينتبه رئيس البلاد، أو يُنبّه، الى أن الآلاف من اللبنانيين يعيشون رعباً يومياً من التهديد بقطع أرزاقهم، ويُعاقَبون، فقط، بسبب أسمائهم، أو لأن التجاذبات السياسية في وطنهم تضعهم في فوهة المدفع لدفع الثمن والمعاقبة؟ ألا يستأهل هؤلاء زيارات من فخامة الرئيس ودولة الرئيس لشيوخ الخليج وأمرائه وملوكه وسلاطينه لاستنهاض ضمائرهم بألا يُعاقَب مَن أمضى عمره في دولهم يبتغي الرزق ولا يضمر لهم شرّاً، وساهم بمحبة في إنماء هذه الدول وارتزق منها؟ هؤلاء الآلاف لا يبتغون من دولهم المضيافة إلا الأمن والأمان لها. ألا يمكن لفخامته ودولته، المصنفَين خارج «محور الشر» اللبناني، تثبيت أن لبنان واحد موحّد في جالياته الاغترابية ومواطنيه، وأن ما يصيب فئة من اللبنانيين يصيبهم جميعاً، وأخيراً، تثبيت أن لبنان لا يسير كالبهيمة تحت سياسة جزرة الوديعة وعصا التهديد بسحبها، وأنه كان وما زال الحضن الدافئ والمضياف لكل العرب إنْ شاؤوا أن يبقونا في تصنيفهم.
في التقييم الداخلي، هناك مَن يتخيّل رئيس البلاد جالساً يحتسي القهوة في جنائن قصر بعبدا. هل، يا ترى، يتطلع إلى يمينه شمالاً أو إلى يساره جنوباً أو يلتفت بقاعاً وراءه؟ كيف يمكن لصاحب الفخامة أن يستأنس بلقبه والبلاد مشلولة؟ وكيف له أن يطير باستمرار مطمئناً عند إقلاع طائرته في كل رحلة والبيئة الاجتماعية والديموغرافية في لبنان تتجه إلى قاعٍ أعمق؟
هل يتوجه، صدفة، إلى أفريقيا في أسبوع ستزيد فيه الإضرابات والتظاهرات في الشوارع متجاهلاً المطالب العمّالية كرئيس حكومته أو جاهلاً لها؟ وهل هي براءة صرفة أن يغيب عن البلاد في وقت لا يمكن فيه التضحية بأي يوم دون إنجاز قانون انتخاب، مكتفياً بالتهديد بالطعن دستورياً في القانون الأرثوذكسي، والتوقيع (بالتوافق مع حليفه التنفيذي) على الدعوة إلى تأليف هيئة الإشراف على الانتخابات كي لا يخالف الدستور.
عجيب. كل ما يجري في البلاد من انفلات أمني وسياسي وقضائي واجتماعي ليس خروجاً على الدستور. فقط الالتزام بالمواعيد الدستورية هو الأهم. لا يقلقه سلب فروع المصارف ولا عمليات الخطف للفدية، ولا أسير الظلام واللاعرس في عرسال ولا بواخر السلاح التي تمرح، ولا تنامي الدَّين أو المذهبية التي تنهش من عظم النسيج بعدما أكلت لحمه.
هل خطر بباله، مرة، أن يضرب بيده على الطاولة بدل أن يومئ بها يساراً أو يميناً، ويصرخ بأنه لا يرضى أن يترأس مجالس وزراء في عهده من رموز متكررة زادت شعبها تعاسة ويأساً، لم تستطع جهابذتها إقرار خطة سريعة لتمويل الكهرباء وتوفير ملياري دولار سنوياً، ولا إعادة فتح مناقصة سوكلين التي ما زالت أرقام عقدها ألغازاً. طبعاً لا، وهو لم يحتجّ يوماً على عدم إقرار الموازنات وشموليتها.
هل يمكن للرئيس الأول أن ينظر من بعبدا في يوم صافٍ شمالاً إلى وادي خالد وعكار وطرابلس وجبل محسن؟ أم أن نظره لا يصل أبعد من جرود البترون وجبيل حيث يعد «الجماهير»، على غرار أسلافه بالصهر الميمون. علّه يؤمن بأن التطرف سيتوقف عند حاجز البربارة، يستثني بيبلوس المصدّرة للحرف، ويكون حليفاً له وكابوساً على «أخصامه» في المتن وكسروان، وكأنه لم يشاهد ما فعل هذا التطرف سابقاً.
غريب أن يرى صاحب الكرسي الأول نفسه زعيماً، كما حال حليفه في الكرسي الثالث. الأول يعتقد أنه صاحب الحق في كتلة نيابية ولو لم تكن له قاعدة شعبية، ناسياً أنه عند انتهاء ولايته لن يكون له حرس جمهوري، ولن تُغلق الطرقات عند مروره أو تحلّق الهليكوبترات عند سفره. تناسى الطرفان أنهما في موقعيهما فقط لأن هناك مَن أتى بهما نتيجة تسويات خارجية. المفارقة أن صاحب الكرسي الأول يخرج عن إجماع طائفته (بحجج المصلحة العليا) ويناور في قانون الانتخاب مخالفاً بكركي ومزايداً على القوات والكتائب والتيار الوطني والمردة وغيرهم، بينما يهرول الكرسي الثالث صوب كل ما يبرهن أنه بأمر الطائفة «مدنياً»، متطرّفاً ضدّ كل مَن يحاول النيل من حقوقها. الأول «يتعلمَنْ» ويطمح لزعامة مذهبية، والآخر يتمذهب ليكون «البديل المدني المتطرف». الأول وصل إلى الرئاسة بتسوية الدوحة وكان مستعداً للقبول بأن يكون رئيساً مؤقتاً لسنتين، والآن يطمح لست سنوات جديدة، والآخر وصل بعدما حلّ ترشيح عمر كرامي كابوساً على الأتراك والقطريين، فطالبوا بشار الأسد بشخصية غير «استفزازية».
ليس الهدف النيل من موقع الرئاسات، ولكن علّ التذكير بحكمة الأحجام يفيد، حتى لا يصدق أيّ كان كذبة صُنعت من أجله في ظرف ما.
بالمناسبة، ما هي حقيقة موقف الرئاسة الأولى من السلاح ومن الاستراتيجية الدفاعية وعلاقة هذا الموقف بالتمديد؟ موقف واضح الغموض…  

السابق
إسلاموفوبيا الممانعين
التالي
صيدا ستلفظ ظاهرة الأسير الغريبة عن نهجها