المهن الخطرة وتأثيرها المأساوي على أصحابها

منذ فجر التاريخ يصارع الإنسان في سبيل لقمة عيشه، فقاتل الوحوش وروضها خدمة لنفسه. ولم يكتف بهذا القدر من النشاط، إنما سعى إلى تطوير مجتمعه من خلال تحديث طرق عيشه، امتداداً حتى الثورة الصناعية التي أفرزت بدورها المهن المختلفة التي تراوحت بين حدي المهن الخدماتية المرفهة، والمهن الممزوجة بالعرق والدم وشتى أنواع المخاطر، والواقعة على الحد الفاصل بين الحياة والموت، وأي خطأ أو إهمال هو النهاية الحتمية لحياة إنسان.
ويبدو أن المهن الخطيرة تبقى أكثر بكثير من أن تحصى، وتعد نظراً للأقدار التي تتحكم بمسار الإنسان وبطبيعته البشرية. فصحيح أن مهنة السائق على سبيل المثال لا الحصر تقارب الرفاهية نظراً إلى تجهيز الآليات بسبل الراحة كافة، غير أن خطر الطريق يبقى جاثماً بانتظار اصطياد الباحثين عن لقمة عيش شريفة.

خطر حقيقي
واستناداً إلى دراسات إحصائية وعلمية، فإن ما أفرزته الثورة الصناعية من مهن صعبة ترقى إلى درجة الخطورة أكثر من المهن المريحة، خصوصاً أن الثورة العمرانية استلزمت الكثير من المواد التي يشكل استخراجها خطراً حقيقياً، على غرار مهنة صناعة الإسمنت التي تبقى الأخطر على الصحة، نظراً للحرارة المرتفعة التي تستلزمها هذه الصناعة، بحيث تبقى مهنة "الفران" أي العامل على فرن التحميص الأخطر على الإطلاق خصوصاً من ناحية ارتفاع الحرارة من جهة، ولوجود مواد كيماوية شديدة الحساسية يسبب سوء استعمالها الكثير من الأمراض السرطانية.
ولا تقتصر أخطار المهنة المذكورة على مرحلة التحميص بل يسبقها العمل في المناجم حيث تكثر مادة الأميانت المسرطنة والتي لا غنى عنها في هذه الصناعة، مع الإشارة إلى أنه تم تسجيل العديد من حالات سرطان الرئة بين العاملين في مصنع الإسمنت في شكا.
وصولاً إلى استخدام المادة المنتجة، بحيث تكمن الخطورة الأكبر على العاملين في مهن البناء المختلفة، لا سيما المهنة المعروفة "بالمورق" أي نشر الباطون على طول الجدران العالية، بحيث يقتصر عمل هؤلاء على السلالم المرتفعة أو ما يعرف "بالسقالة" مروراً بعاملي الدهان الذين يستخدمون المعدات ذاتها للعمل في الطوابق المرتفعة. وليس انتهاءاً بنجاري الباطون الذين يعملون على ارتفاعات موصوفة من دون أية حماية تفرضها حكومات الدول المتقدمة على أصحاب هذه المهن. ومن أبرز الضروريات المطلوبة للحماية بحدها الأدنى ارتداء الخوذات الحديدية. وارتداء زنار الأمان الذي يقي من أخطار السقوط المميت. وتجدر الإشارة إلى أن الصحف اليومية لا تكاد تخلو من خبر يومي في إطار مثل هذه الحوادث.
في سياق متصل تبرز من بين المهن الخطرة تلك المتعلقة بالدهان ومشتقاته بأشكاله كافة على غرار دهان السيارات في ما يعرف بالأفران المقفلة، حيث تنتشر روائح المواد النفطية على غرار "التنر" والـ"لكر". ناهيك عن مهنة نشر الصخور التي تحتاج بدورها إلى أنواع مختلفة من الحماية الذاتية كالأقنعة الواقية.

إهمال وتشريد
هناك أعداد لا تحصى من العمال الذين تعرضوا لحوادث أثناء عملهم الخطر، خرجوا منها أحياء ولكن بإعاقة أقسى من الموت.
وفي هذا الإطار كان لنا حديث مع مجموعة من الذين أصيبوا بحوادث خطيرة نتيجة الإهمال من الورش أو المؤسسات والمعامل والشركات التي يعملون بها والتي قذفت بهم إلى قارعة الشارع مع عائلاتهم التي فقد معيلها القدرة على العمل، حالات مأساوية تظهر مدى الظلم والشجع من أرباب العمل الذين يسلبون حقوق العامل ودمه وخبز أولاده بحماية من الدولة.
وإزاء الأخطار المحيطة بالكثير من المهن لا بد من طرح علامة استفهام كبيرة حول دور الدولة من جهة والنقابات من جهة ثانية. وذلك في ظل غياب قوانين الحماية الملزمة، بحيث تجدر الإشارة إلى ضرورة التأمين الإلزامي لحوادث العمل أسوة بتأمين السيارات الإلزامي. فضلاً عن التشديد على وجوب تغريم المخالفين مع ضرورة تعميم شروط حماية فاعلة وملزمة تقي عمالنا الكثير من الكوارث.
  

السابق
حزب الله يسعى إلى فراغ مؤسساتي لإحكام سيطرته على لبنان
التالي
الخوري: الرئيس سليمان لا ينصاع لقرارات احد من الخارج باجراء الانتخابات