ماذا يريد الإيرانيون؟ وماذا يريد الأميركيون؟


كان المؤتمر الصحافي الذي عقده وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل مع وزير الخارجية الأميركي جون كيري يوم الثلاثاء الماضي بالرياض، غريبا في وقائعه. فقد بدا الوزير السعودي شديد الوضوح، بينما بدا الوزير الأميركي شديد الغموض، إن لم نقل شديد التردد والحيرة.
الفيصل قال إن سياسات التفاوض مع إيران على ملفها النووي سوف تؤدي إلى أن يمتلك الإيرانيون السلاح النووي خلال سنوات قليلة، وإن السياسات تجاه الثورة في سوريا تعني الدمار الكامل للبلاد، وإن الأخلاق (وليس الأمن الدولي وحسب) تقتضي في الحد الأدنى إمداد السوريين الثائرين بوسائل الدفاع عن النفس في مواجهة النظام المصر على إبادة شعبه. ووافق الوزير الأميركي على كلام الفيصل، ثم خالفه في الحالتين.. قال إن الولايات المتحدة مصممة على منع إيران من تملك السلاح النووي، وهي تريد حلا سياسيا تفاوضيا في سوريا. أما وسيلتا تحقيق هذا وذاك فقد بقيتا غامضتين.
ماذا يريد الأميركيون حقا في شأن الملف النووي الإيراني؟ وماذا يريدون تحقيقه أو عدم تحقيقه في الملف السوري؟ بعد سنوات طويلة من التفاوض على نووي إيران، وعام ونصف على «التفكير والتقدير» في الملف السوري، يبدو لي أن السؤالين بشأن أميركا والملفين ما عادا صحيحين، بل تقديري أن المسألة تقع في جهة ثالثة، وهي أن أميركيي أوباما ما عادوا مستعدين للدخول في أي نزاع بالشرق الأوسط يقتضي حسمه تدخلا عسكريا مباشرا أو غير مباشر؛ فقد جربوا التدخل في أفغانستان والعراق، وكان ذلك مؤلما جدا لهم ولهيبتهم، وربما لمصالحهم.
كان بوش الابن يقول في أواخر أيامه في الرئاسة إن الولايات المتحدة صارت أكثر أمنا. وإذا كان معنى ذلك أن الولايات المتحدة ما عادت معرضة لهجوم كهجوم 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001، فربما كان ذلك صحيحا. بيد أن أبرز ما حصل أن سياسات الولايات المتحدة، بل أولوياتها صار لها فيها شركاء في المنطقة هم بالترتيب: إيران وإسرائيل وتركيا.
والولايات المتحدة مضطرة الآن (أو أنها تريد ذلك) إلى إشراك كل هؤلاء في القرار، إضافة للاتحاد الأوروبي وروسيا، وربما الصين أيضا! فقد كسبت إيران مناطق نفوذ جديدة، ونقاطا وملفات للمساومة والتبادل. وتصاعدت إمكانيات إسرائيل نتنياهو لتجاهل حل الدولتين. وصار الأتراك لاعبين حقيقيين على مستوى الشرق الأوسط وأوروبا. وهنا يتدخل أوباما ليقول: لكن سياسات أميركا في عهدي منعت نشوب حروب كبرى بالمنطقة ومن حولها وعلى مدى أربع سنوات!
هناك أمران إذن تقول أميركا أوباما إنها حققتهما: جعل الولايات المتحدة آمنة أو أكثر أمنا، والحيلولة دون نشوب حروب جديدة بمنطقة الشرق الأوسط. وهاتان النقطتان بالذات هما موطن القوة في الموقف الإيراني. فحتى خروج العسكر الأميركي من العراق، كانت الولايات المتحدة محتاجة إلى إيران. واعتمادا على ذلك أقدمت إيران على بسط نفوذها أو تقويته في العراق وسوريا ولبنان، وفتحت مناطق نزاع جديدة في مثل اليمن والبحرين، وتابعت «تنمية» وتطوير ملفها النووي. وبعد خروج الأميركيين انصرفت إيران لتثبيت مواقع النفوذ، ومحاولة الامتداد لمنافذ أخرى، وكل ذلك بالاعتماد على أن الولايات المتحدة ما عادت تجرؤ على شن حروب جديدة. وقد اعتبر الإيرانيون أنهم يستطيعون السير قدما إلى ما لا نهاية، ما دام الأميركيون غير مستعدين للعودة للحرب. بينما هي مستعدة دائما للوصول إلى هاوية النزاع أو حافة الحرب، مطمئنة إلى أن الأميركيين ما عادوا قادرين أو مريدين مجاراتها. ففي مكافحة النووي الإيراني ما عادت الولايات المتحدة قادرة على تجاوز روسيا. وفي مسائل مناطق النفوذ، تعلم الولايات المتحدة أن إيران لن تخرج من البلدان الثلاثة إلا بالقوة، فضلا عما يشكله خيار القوة من جانبها إن أتيح من أخطار على إسرائيل، وعلى أمن الخليج.
ويسعى الأميركيون «لإغراء» الإيرانيين وليس لتهديدهم، من أجل العودة إلى سنوات الاستقرار و«الغلبة» بعد عام 2010: في الملف النووي بتقوية الحصار أو تخفيفه، وفي الملف السوري بعدم المساعدة على انتصار الثوار حتى لا يتهمهم الإيرانيون فيعمدوا للتحرش بإسرائيل من طريق صواريخ حزب الله!
وإذا كانت مسألة «الحرب» أو خوفها هي نقطة ضعف الولايات المتحدة، وهي في الوقت نفسه نقطة قوة إيران (أي المضي باتجاه التحدي وحدود الحرب في كل مكان)، فماذا يكون على العرب أن يفعلوا؟ ما يقال هنا ما عاد جديدا ولا فريدا. في سوريا على العرب جميعا «مساعدة الشعب السوري في الدفاع عن نفسه»، وهم يستطيعون توقع الدعم التركي، بل الدعم الأوروبي. وفي الملف الفلسطيني يستطيعون المضي في اتجاه المجتمع الدولي الذي يقف معهم باستثناء الولايات المتحدة. أما في النووي الإيراني، فليس من المصلحة القريبة القيام بأي شيء؛ لأن الأميركيين اعتادوا على المبادلة مع إيران، وعلى إغراء إسرائيل بالمزيد من العطايا والضمانات، دونما توقع لمتاعب من جانب العرب!
في عام 2010 اقترح علي ناشر كتابي «الصراع على الإسلام»، وبعد أن لاحظ شدة اهتمامي بالكتابة عن العرب وإيران وتركيا، أن أكتب كتابا بعنوان «الصراع على العرب»! وقد بدا لي لأول وهلة أن الأمر يستحق، ثم تركت ذلك؛ فقد كان الأميركيون يخرجون من العراق، ويسلمونه لإيران، ويعيدون سفيرهم إلى سوريا الذي كان البوشيون قد سحبوه، ويغضون النظر عن استيلاء حزب الله على لبنان في مقابل عدم التحرش بإسرائيل. وقد بدا الأتراك راضين بنصيبهم أو ما اعتقدوا أنهم حصلوا عليه بعد التبادل التجاري المزدهر، من هدوء نسبي على حدودهم مع إيران والعراق وسوريا.
لقد تغيرت حسابات الإيرانيين والأتراك بعد نشوب الثورة في سوريا؛ فالأتراك شعروا بالخديعة، وأظهروا سخطهم على الأسد وعلى المالكي معا، وقووا علاقاتهم بكردستان العراق، لكنهم حتى اليوم لا يرون مصلحة في الصراع مع إيران، ويعتقدون أنها عائدة إليها أو أنها ستعرض عليهم شراكة أكثر فائدة، بسبب سوء العلاقة مع أميركا، وسوء العلاقة مع دول الخليج وعلى رأسها السعودية. وهكذا رأيت بعد تأمل الموقف أنه لا حاجة لافتراض الصراع على العرب، ما دام الأميركيون والأتراك قد سلموا بالغلبة الإيرانية. والأولى الانصراف للتفكير في «إمكانيات» الاستجابة العربية للتحدي الإيراني، والانكفاء الأميركي، والإقبال الروسي على اجتراح شراكة مع الأميركيين ومع الإيرانيين.
والواقع أن «الفراغ الاستراتيجي» الذي تحدث عنه الأمير سعود الفيصل في مؤتمر القمة بسرت الليبية عام 2010 ما دخل على إدراكه منذ ذلك الحين غير اعتبارين اثنين: الثورة السورية، والاضطراب السني بالعراق. وهذا معنى تركيز الفيصل منذ قرابة العام على الوضع في سوريا واحتمالاته وإمكانياته. فلدينا الآن ضرورة دعم الشعب السوري، الذي تألب عليه الإيرانيون و«حلفاؤهم» العرب، والنظر في إمكان المساعدة على حدوث توازن في العراق، يحول دون استمرار الغلبة الإيرانية على ذلك البلد. لا صراع إذن على العرب، بل هو صراع عربي مع إيران على سوريا والعراق ولبنان، «والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون».

السابق
اراضي للبيع في الجنة
التالي
الانحدار نحو الخراب في مصر