أماكن موضوعية

تنام في غرفة جديدة. لا غبار تكدّس على الحيطان، ولا دموع على الوسادة. يشغل جسدها المساحة التي يستحقها فحسب. يمرّ الوقت في الغرفة بموضوعيّة. يكتسب الوقت موضوعيّة جميلة في الأماكن الجديدة، حيث لا يحمل لون الوردة البيضاء تأويلات أو إيحاءات. لا تخبّئ الأماكن الجديدة حنيناً أو ذكريات، أو رؤية أو مشاريع مستقبليّة.
يدخل الفرد غرفة الفندق، ينام طويلا. لا يقلقه الأثاث ولا الصورة المعلّقة على الحائط، فهي لا تعني له شيئاً. ينام بهدوء، ولا يحتار في تقويم الوقت، ولا في ملمس الطاولة، فهو لم يتناول عليها يوماً ما عشاءً مع أحد، ولم يترك عليها كتبه في سهرة دراسية طويلة.
لا يطول الوقت في الأماكن الجديدة، ولا يقصر، فاللحظة هي اللحظة، واللون هو اللون، والحبّ هو الحبّ، له مدّة أو مساحة واضحة ومحدّدة. يحبّ الأفراد الأشياء الجديدة، لذا يبدّلون أثاث البيت بين فترة وأخرى وكأنهم ينفضون الغبار عن أجسادهم، ويبدّلون ألوان ملابسهم في الحين والآخر وكأنهم يغيّرون نكهة مزاجهم، ورائحتهم وما يسكنهم في الداخل.
لا يخاف الإنسان، ربّما، من التقدّم في العمر خشية على السنوات التي يخسرها، بل يهاب ثقل الأيام المتتالية التي سوف يحملها. يكبر الإنسان، ويحمل معه أشياء، وذكريات، وحنيناً وألواناً وصوراً وأحاديث وقبلات وأفكاراً وخواطر وبروقاً ورعوداً وقطرات ندى وأشياء يصعب حملها، فتلوي ظهره. يفوز الإنسان في النهاية بجائزة النسيان كعربون تقدير على الفوز بالسباق، كتفاحة يقدّمها الجمهور للعدّاء.
تنام في غرفة جديدة. يشغل جسدها المساحة التي يستحقها. لا تحمل الغرفة معاني أو تأويلات. وتغفو بموضوعية الأماكن الجديدة.

حياة عمودية
"حياة عمودية". قرأت الجملة ذات مرة على إحدى المباني. لم تفكّر يوماً إن كانت الحياة عمودية، أو أفقية، أو مسطّحة أو دائريّة. تخيّلت كم سيبلغ طول الحياة؟ هل يتجاوز طولها الأربعين مترا، أو عدد طوابق الأبراج العالمية؟ الحياة ترتفع لكنها لا تلتصق بالسماء ولا تقترب من النجوم. الحياة ترتفع.
يحبّ الصغار الدوران حول أنفسهم، وحول موائد الطعام، وحول الشاشات المضيئة. يظنون، ربما، أن الحياة مستديرة. ماذا لو كانت الحياة مستديرة؟ الفكرة مخيفة. تتصوّر أنها ستجد نفسها في الفترة المقبلة عند نقطة البداية، وستدور من جديد. تصيبها الفكرة بالدوران.. الحياة تدور.
يقول أحدهم إنه يرى في الصحراء خطاً طويلا أسود. يتكهّن بأن الخط يطول، ويمتدّ.. تتخيّل إن كانت الحياة خطاً أفقياً طويلا: أين نقطة البداية؟ أين نقطة النهاية؟ ربما هي مجموعة نقاط. نقطة يتبادل فيها العاشقان القبل، ونقطة تصرّ فيها الجدة على تناول شراب البرتقال، ونقطة يصدّق فيها الأطفال بوجود بابا نويل، ونقطة يأوي فيها العالم إلى فراش دافئ وينام. يبلغ طول الخطّ المسافة التي تقطعها رسالة يرسلها أحدهم من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي. تصل الرسالة بسرعة في تلك الأيام. الحياة تتقلّص. عندما تصل الرسائل بسرعة، تتقلّص الحياة.

السابق
حتى يبقى لهم مطرح في لبـنان
التالي
عدنان منصور