شمبانيا غربية “احتفالاً” بوفاة هيوغو تشافيز

لم يسبق قبل الآن أن كان الغرب الدبلوماسي والحاذق في مجال العلاقات العامة، فظاً وغليظاً في تعاطيه مع موت خصم له كما فعل مع هيوغو تشافيز.

فالرئيس الأميركي أوباما لم يذكره بكلمة واحدة، ولا قدّم إشارة عزاء إلى الشعب الفنزويلي، بل هو اكتفى بالاعراب عن "استعداده للتعاون مع الحكومة الفنزويلية الجديدة". وكتّاب التعليقات والمقالات الأوروبيين والاميركيين، من فايننشال تايمز إلى نيويورك تايمز وواشنطن بوست وغيرهما، لم يخفوا حماستهم واندفاعهم إلى الإعلان بأن وفاة تشافيز ستعني موت "اشتراكية القرن الحادي والعشرين" التي كان ينادي بها، ومعها حلمه الكبير، الذي هو حلم سيمون دي بوليفار في القرن 19، في توحيد أميركا اللاتينية كقوة اشتراكية مناوئة للرأسمالية الأميركية.
لماذا هذا الحقد على تشافيز، الذي شبّهه البعض بفتح زجاجات الشمبانيا الاحتفالية في مأتم عزاء؟
حسنا. تشافيز نفسه كان هو الآخر فظاً وخشناً في تعاطيه مع "الامبراطورية الأميركية" و"الامبريالية الأميركية". لكن هذا كان لايجب أن ان يمنع الغرب من تكريم رجل كان يحظى في حياته بحب ودعم 55 إلى 60 في المئة من الفنزويليين. ما السبب الحقيقي هنا؟

الأرجح أن الأمر يتعلّق بالتاريخ وبصلف الحضارة الغربية تجاه الحضارات الأخرى.
الدليل؟
فلنتذكر معاً هذا الحدث في العام 2007.
في تلك السنة، كال ملك إسبانيا "الهاديء" عادة خوان كارلوس شتيمة لتشافيز حين قال له خلال القمة الأيبريية- الأميركية " لماذا لا تخرس؟ " .
هذه لم تكن مجرد "عطسة دبلوماسية" عابرة. التاريخ بكل ثقله كان موجوداً بقوة فيها. وتشافيز عبَر أنذاك عن ذلك ببلاغة، ليس لأنه أعلن انه "لم يرد على الشتيمة بـأحسن منها لانه لم يسمعها "، بل لوضعه أصبع الحاضر على جرح الماضي حين قال: "مما لا شك فيه الان انه عندما ينتاب الغضب العاهل الاسباني بسبب اقوال يدلي بها شخص هندي الاصل مثلي، فإن لسانه ينفجر معبراً عن غطرسة دفينة عمرها 500 سنة"، في اشارة الى فترة الاستعمار الاسباني في أميركا اللاتينية.
هذه الجملة بليغة لأنها ربما تلخَص بشطحة قلم المرحلة التاريخية التي يمر بها العالم الان، والتي تتميز بأمرين ضخمين إثنين: الأول، بدء نزول الحضارة الغربية عن عرش الزعامة العالمية الذي إحتلته منفردة منذ نيف و600 عام، والثاني بدء صعود الحضارات القديمة إلى قلب مسرح التاريخ.
في اميركا اللاتينية تعبَر هذه الحقيقة عن نفسها بالنهضة السياسية- الثقافية الهائلة التي يشهدها الهنود الحمر الأن في العديد من دول أميركا اللاتينية. وفي آسيا، تتجسد ( الحقيقة) في تطور ضخم لم يشهد له التاريخ مثيلاً: الصعود المتزامن للعمالقة الأسيوييين الثلاثة الصين واليابان والهند في وقت متزامن، فيما قوانين التاريخ الحديدية كانت تملي في السابق أن يكون صعود أحد هؤلاء العملاقة نذيراً بهبوط العملاقين الأخرين.
هذه اللوحة الجديدة لا يمكن تفَهم مضامينها البعيدة إلا بالعودة قليلاً إلى الوراء. إلى القرن التاسع عشر. في ذلك الحين، كانت الدول الأوروبية تبلغ ذروة صعودها التاريخي على الصعد الصناعية- التكنولوجية والفكرية- الفلسفية، وتبدأ بدك أسوار الحضارات القديمة في اميركا اللاتينية وآسيا بكل أنواع الأسلحة المادية والثقافية.
الحضارة اليابانية كانت أولى الحضارات الشرقية التي تنهار أمام هذا الأجتياح، ليس لانها هزمت، بل لأنها قررت الاستسلام. وكانت هذه خطوة متطابقة تماماً مع تركيبتها وطبيعتها. إذ هي كانت طيلة تاريخها " أمة مستعيرة " أكثر منها " أمة معيرة ". والطرف الأول الذي كانت تسرق منه إشراقاته العلمية والفلسفية كانت الصين. لكن، حين نامت بلاد الهان واستفاقت بلاد الفايكنغ والجرمان، لم تتردد اليابان في " التأورب" ( من اوروبا) بسرعة قياسية.
الأمر كان مختلفاً تماماً مع الصين. فهذا العملاق الأصفر لم يكن مكتف حضارياً فحسب، بل كان يعتبر نفسه متفوقاً على كل ثقافات العالم. كان يطلق على نفسه إسم " المملكة الوسطى"، أي مركز العالم. المرة اليتيمة التي قبلت فيها الصين إستيراد ثقافة أجنبية، كانت قبل 2000 سنة حين تبنت الفلسفة البوذية. ولذلك، وحين هاجم الغربيون، تقوقع الصينيون ورفضوا إستيراد الثقافة المنتصرة الجديدة.
الحصيلة كانت معروفة: الغرب الاوروبي بكل أصنافه الاوروبية والروسية والاميركية، يشّوه الثقافة الصينية بكل ألوانها، ويشن عليها حرب أفيون كادت تبيد كل ميراثها الهائل برمشة عين. وهو ( الغرب) لم يكتف بذلك، بل شن حملة عنصرية هائلة على الصينيين متهماً إياهم بأنهم اولئك " الصفر الصغار" الذين يتوقف نموهم العقلي عند سن الثالثة عشرة، تيمناً بالقرود الذين يتوقف تطور أدمغتها عند السنة الثالثة!.
الحصيلة نفسها تكررت في الهند " الهندية " في جنوب آسيا، وفي الهند الحمراء بأميركا اللاتينية حيث إستعملت وسائل إبادة جسدية وثقافية لا سابق لها لتمهيد الطريق أمام بروز هيمنة الغرب الذي عيَن نفسه على العالم سيداً، وأستاذاً، ونبياً دينياً ودنيوياً على كل العالم. وكل ذلك تم في إطار مركزية ذات عنصرية ندر مثيلها سوى ربما عند اليهود القدماء.
هذه الصفحة تطوى الان، ويستعد العالم لتعَلم القراءة في صفحة جديدة، وبلغات جديدة.. لكن العادات القديمة لا تموت بسهولة. ولذا ربما وجد الملك كارلوس، حفيد أشرس إستعمار أوروبي في اميركا اللاتينية، أن من الصعب عليه قبول الجلوس إلى طاولة واحدة على قدم المساواة مع هندي أحمر كان يفترض أن يكون راكعاً تحت قدميه، كما كان أسلافه يتعاملون مع السكان الأصليين.

هذا من ناحية إطلالة الغرب على وفاة تشافيز.
أما عن توجهات تشافيز نفسه حيال المنطقة العربية، فلا شك أنه ارتكب أخطاء فادحة حين دعم معمر القذافي حتى اللحظة الأخيرة، وحين واصل دعم النظامين السوري والإيراني على رغم المذابح التي ترتكب في بلاد الشام. لكن الأرجح أن الرجل فعل ذلك انطلاقاً من اعتقاده بأنه في زورق واحد مع القذافي والأسد وخامنئي ضد أعدائه الأميركيين. وهذا بالطبع تحليل سياسي مخطيء وموقف أكثر خطأ حيال الشعوب السورية والليبية والإيرانية.
بيد أن تشافيز لم يخطىء في أمر آخر: منح جمال عبد الناصر حقه في تاريخ أميركا اللاتينية.
وهذا مافعله خلال العربية – الأميركية اللاتينية العالم 2009، حين أعلن خلالها أنه "ناصري" وهذا أثار آنذاك هزات ارتدادية عدة عنيفة في المنطقة العربية.
معظم هذه الهزات، من أسف، كانت سلبية. فالبعض، الذي له حسابات سياسية وإديولوجية قديمة مع النظام الناصري، أطّل على دعوة تشافيز إلى إحياء الناصرية كفكر ومنهج على أنها نداء مسموم في لحظة حرجة. والبعض الآخر اعتبر أن تجربة جمال عبد الناصر كانت لها ظروفها المحددة، ثم أنها تكللت بهزيمة 1967 المروّعة التي أسفرت عملياً عن طي صفحتها.
وهناك، أخيراً، من أطّل على التجربة الناصرية بصفتها الجسر الذي عبرت فوقه الأنظمة الجمهورية لإقامة سلطاتها الديكتاتورية والاستبدادية والوراثية في كل أرجاء المنطقة العربية، وحتى في بعض مناطق العالم الثالث.
بيد أن كل هذه الردود أساءت فهم دعوة تشافيز مرتين: مرة، حين اعتقدت أن الرجل أراد إحياء الناصرية كما هي، أي مع عدة شغلها المفتقدة إلى الحريات والديمقراطية والمعتمدة مجدداً على سلطة الجيش، في أحسن الأحوال، أو على أجهزة الاستخبارات، في أسوئها. ومرة ثانية، حين عزلت اقتراح تشافيز عن التمخضات الكبرى التي تشهدها هذه الأيام دول أميركا اللاتينية والعديد من البلدان حديثة التصنيع، والتي تشي بامكانية ولادة تيار عالمثالثي جديد يستند إلى مباديء باندونغ و"الاشتراكية الديمقراطية للقرن الحادي والعشرين".
كلا هذين العاملين، أي زف الاشتراكية إلى الديمقراطية وبلورة حركة عالمثالثية حديثة ومتنوّرة، كانا حاضرين بقوة في مؤتمر باماكو (عاصمة مالي) في شباط/فبراير العام 2006 والذي حضرته مئات المنظمات اليسارية والتقدمية من كل أنحاء العالم. وقد صدر عن المؤتمر "إعلان باماكو" الشهير الذي دعا إلى:
1 – بناء عالم يقوم على التضامن لا التنافس بين البشر والشعوب، ويقر إقراراً كاملاً بالمساواة بين الموطنين وبين الجنسين.
2- بناء حضارة إنسانية تسمح بالتنوع في كل المجالات و تحرر الطاقات الخلاقة، في مواجهة النيوليبرالية التي تعتمد الفرد (وليس المواطن)، أداة لتحرير و إطلاق الإمكانيات البشرية، وتضعه في عزلة مقيتة يفرضها الاختصاص والاندفاع لتحقيق قدرات مميزة، وهي ما تقود إلى نقيض هذه الأوهام أي التقوقع في الهويات الجماعية شبه الأثنية والدينية.
3- دعم الروابط الاجتماعية من خلال الديمقراطية، وبلورة سياسات تقيم ديمقراطية فعلية على أسس التقدم الاجتماعي والاعتراف الصريح باستقلال الأمم والشعوب.
4- التأكيد على تضامن شعوب الشمال والجنوب في بناء أممية للشعوب مناهضة للإمبريالية.
بعد مرور50 سنة على مؤتمر باندونغ، ها هو نداء باماكو يؤكد على ضرورة قيام «باندونغ جديد لشعوب الجنوب" ضحايا العولمة الرأسمالية، ويدعو إلى بناء جبهة لشعوب الجنوب والشمال معاُ من أجل مواجهة مشاريع القوى الرأسمالية والهيمنة العسكرية للولايات المتحدة ..
هذا كان الجذر الحقيقي لدعوة تشافيز إلى إحياء الناصرية. وهي، كما هو واضح، دعوة تستند إلى نظرة جديدة كلياً إلى مسائل الديمقراطية والاشتراكية وطبيعة الصراعات الدولية والعلاقات بين الحضارات.
ولذا، كان يتعيّن على الأطراف العربية المعنية عدم التسرّع في إدانة ناصرية تشافيز، بصفتها بضاعة قديمة في حلّة جديدة. فهي ليست كذلك. إنها بالأحرى نذر ولادة عالمثالثية جديدة قد تمهد لبروز حضارة عالمية جديدة أكثر عدلاً وأقل استبداداً.

هيوغو تشافيز رحل. والغرب سعيد لتخلّصه من "وجع الرأس العالمثالثي" هذا، وهو أعرب عن هذه السعادة بفظاظة كما قلنا.
لكن إرث تشافيز إلى جانب الفقراء والطبقات الوسطى، ومع الزواج السعيد بين الاشتراكية والديمقراطية، وفي دعواته إلى عولمة جديدة أكثر إنسانية ومساواة، لن يتبدد.
فالعالم المتغيّر بسرعة يسير في هذا الاتجاه.. ولو كره الغربيون.

السابق
جعجع ردًا على منصور: يعرّض اللبنانيين لمخاطر جمّة بأمنهم وأرزاقهم
التالي
نواف الموسوي: المشروع المطروح تشريعيا هو فقط القانون الارثوذكسي