في زمن النجوم: عن صحافيّ عاش في الكواليس

بيار محترف بهجة ومقالب. قاوم مآسي الحياة بالضحك
الضخم، جسدا وروحا وتجربة. لم تقتله الحرب، قتله مرض خبيث

الاثنين 4 اذار 2013
يكره الحرب. ليس جديدا في موقفه هذا وليس متفردا. لكنها، بخلاف كثيرين، قناعة راسخة لديه، تتفتح في كل كلمة او سلوك يومي. تبدو كأنها مزاج شخصي: نبَذ العنف بالتهكم. بالنكتة واللامبالاة صدّ موجات العنف المتوالية. ردود فعله كانت تبدو استسلاما، لكنها في عمقها محاولة التفاف وامتصاص لهذا العنف الذي انهك جسده ولم ينل من حيوية الروح وتوثب العقل وتألق الفكرة اللماحة. كان يزعجه في الجيل الجديد جموح بعضه الى تكرار تجربة الحرب. شديد القسوة على المهرولين بعصبياتهم الى خطوط تماس تستدرجهم، فيطلقون رصاص السنتهم وسهام رفضهم وقذائف طيشهم، باتجاه الآخر. ويغضب لتبعيتهم العمياء وراء تجار الموت من متعهدي الحروب. لطالما قال غاضبا إنّهم لم يتعلموا لأن آباءهم وامهاتهم لم يستوعبوا دروس الحرب، تلك التي حصدت اجمل الاحلام. كان يقول انهم ذاهبون الى الحرب كما لو ان نهر الدم لم يُشبع الوحش الكامن فينا، الصعب على الترويض.
طيلة السنوات العشر الاخيرة، التي عشناها معا في جريدة البلد، تعلمت منه الكثير في المهنة. لكنني اعتقد ان شيئا بدا لي متفردا به عنَا، نحن زملاءه واصدقاءه. هو ذلك السلام الذي يبثه في من حوله: عصبيته الانسانية، ولا ادري ان كان يصح نسب العصبية إلى الانسانية. كان عندما يحدثنا عن الحرب الاهلية، التي عايشها على خط التماس في الجميزة البيروتية، حيث ولد ونشأ وترعرع وتوفي، لم يبحث عن تبريرات لأحد، ولم يكن من الذين يلقون المسؤولية على الجهة المقابلة ليبرروا ارتكاباتهم. بل كان نقديا أولا وأخيرا.
حين بدأ حياته المهنية، في جريدة العمل آنذاك، التي كانت تصدر من مقر قيادة حزب "الكتائب" في الصيفي، على خط التماس قرب مرفأ بيروت، كان يروي قصص انفجار خطوط التماس وهدوئها، وكيف يرتبط بعمليات سلب يجري اعدادها وتنفيذها على وقع المواجهات. لطالما حدثنا عن معارك شرسة لسرقة بضائع من المرفأ، وليس لأسباب سياسية. وروى كيف أنّ الذين لم تقتلهم المواجهات قتلهم الادمان على المخدرات او حولّهم الى مجرمين.
مرة حدثني عن علاقته التي نشأت بأحد المقاتلين الفلسطينيين في "بيروت الغربية" العام 1979. علاقة نشأت عبر الهاتف وبالصدفة، وتطورت إلى صداقة وصلت الى دعوة هذا المقاتل إلى زيارة المنطقة "الشرقية". إستقبله على منطقة المتحف وانتقلا برفقة اصدقاء في جولة الى جونية وجبيل. تحدث بشغف عن هذا الصديق، عن علاقة استمرت الى ان اختفى هذا الصديق بعد العام 1982: ربما قتل، قال.
كان معجبا باخلاق وقيم جيل ساسة ما قبل الحرب. يتحدث عن الشيخ بيار الجميل مؤسس ورئيس حزب الكتائب باحترام. في جريدة العمل كان جوزيف بو خليل، رئيس التحرير، استاذا في اصول مهنة الصحافة، وقد تعلم منه الكثير. روى كيف كان في خضم الحرب يحرص على عدم التعامل مع رموز الطرف الاخر باستهانة او استخفاف في تحرير الخبر، أي احترام صفة الخصم المسؤول والنقل بأمانة من دون تحوير او استخفاف او اتهام.
يروي انه في احدى موجات القتال نشرت جريدة العمل خبرا حصريا عن لقاء الشيخ امين الجميل بالمسؤول الفلسطيني ابو اياد، بنبرة انتقاد، ما اثار حفيظة الشيخ الذي حضر الى مقر الجريدة وعنّف بو خليل امام الملأ. بعدها دعا والده الشيخ بيار أعضاء قيادة الحزب واعمدة الصحيفة واستدعى نجله وطلب منه الاعتذار علنا من رئيس التحرير. ورفض الشيخ بيار ان يتم ذلك الا امام الجميع وليس في غرفة مغلقة، وهذا ما حصل.
وصديقنا كان محترف بهجة ومقالب. قاوم مآسي الحياة بالضحك… حتّى العبث. لشدة العنف المحيط بنا انحاز الى كل ما هو انثوي. كانت الانوثة بابا لتلطيف المشاعر المتوحشة. إنهماكه بالرياضة واخبارها تعبيرٌ عن ملل من هبوط السياسة المتمادي في بلادنا. والأهمّ أنّه كان يبتهج لكل مبتدىء في الصحافة. ينهمك به الى حدّ يستفز زملاءه احيانا. يأخذ بيده بفرح من وجد ضالته التي يبحث عنها منذ زمن. ربما كان يفتّش عن صحافة الزمن الغابر، في وجوه المبتدئين عذريي التجربة. والأرجح أنّه لم يجد. المكان لا يتّسع لإعطائه حقّه، هو الضخم، جسدا وروحا وتجربة. هو الذي لم تقتله الحرب، قتله مرض خبيث.
سرقه في أيّام. وفي أيّامه الأخيرة واجه الموت باللامبالاة نفسها، وبالشجاعة نفسها، وسخر من الموت كما لو أنّه ينتقم منه.رغم أنّ الصحافة صارت اليوم صنو الشهرة، إلا أنّه، ورغم شهرته في الوسط الإعلامي، بيار القاضي بقي مغمورا أمام الناس. ومثل كثيرين يعيشون في الكواليس، كالأبطال، لا يشهرهم إلا الموت.

السابق
لائحتان غير مكتملتين تتنافسان في كفرحونة
التالي
الحياة: المجتمع الدولي يتفهم التمديد للبرلمان للحفاظ على الاستقرار