بحر حمص يضحك: هذه أرضنا 

بحرٌ في حمص. ليس في الأمر خيال ولا طرفة. فكما يقال لبحيرة طبريا «بحر الجليل»، يمكن بحيرة قطينة أن تكون بحر حمص. والبحر في حمص متعَب. على ضفته الغربية، تقع الغسّانية. بلدة يقطنها لبنانيون وسوريون منذ عشرات السنين. لعنة الجغرافيا والمذاهب وضعتها تحت حصار «جبهة النصرة» و«كتيبة الفاروق». تطوّع من أهلها المئات للدفاع عنها إلى جانب الجيش. في ذاكرتهم، لا تزال طرية مشاهد مجزرة بلدة الحيدرية المجاورة. منذ أشهر، لم يعد لأهل الغسّانية طريق بري. يعبرون فوق مياه بحيرة قطينة. كانت لبعضهم مراكب خشبية يستخدمونها لصيد السمك في البحيرة التي تلامس حمص. صنعوا أخيراً، على عجل، مراكب من حديد غير مطليّ. يُنقل فيها الناس، الطلاب والموظفون والمرضى والجرحى، والمزروعات من الغسانية. يتجهون غرباً نحو الضفة المقابلة، حيث أقيم «ميناء» في بلدة دبين، على عجل أيضاً. الحمّالون يُفرغون الجَزَر واللفت وغيرها من مزروعات أراضي الغسانية، لتُنقل من هنا إلى الساحل السوري، وأحياناً إلى دمشق. لا تعود المراكب فارغة.

يستقلها أهل البلدة العائدون إليها من الغرب، وتُملأ بالبضائع وبما يُستفاد منه لصد الغزو. الريح هنا عاتية. والمراكب مصنوعة يدوياً. بعضها تتسرب إليه الماء. وبعضها الآخر يُغرقه الموج. قبل أيام، غرق مركبان، ولم ينجُ بعض الركاب. مات ثلاثة غرقاً في بحيرة قطينة. في سوريا، طريق البحر كما طريق البر، لا أمان فيها. ومتى تأخّر أهل الغسانية في «تغريبهم»، لا يعودون قادرين على «التشريق». ففي البحيرة ليلاً، كل ما يتحرّك هدف لنيران الجيش السوري.
دنيا أهل المنطقة انقسمت بعد «الثورة» بين شرق وغرب. شرق نهر العاصي، بين القصير والتخوم الجنوبية لمدينة حمص، بات تحت سيطرة مسلحي المعارضة السورية. لكن الطريق الدولية بين حمص والشام (تقع شرقي النهر) بقيت في عهدة الجيش السوري، وكذلك بعض القرى، وبينها الغسانية. أما غربي النهر، فاليد العليا لا تزال للدولة السورية، مع بعض «الخروقات» المعارِضة. وغربي النهر ايضاً، قرى حوض العاصي، حيث يعيش لبنانيون منذ مئات السنين.
لبنانياً، يقع حوض العاصي قبالة الهرمل، ويمتد بين مدينة القصير السورية وعكار. ومنذ أن استعاد الجيش السوري بابا عمرو، حلّت اللعنة على هذه القرى. صارت المجموعات المسلحة التابعة للمعارضة ترى فيها ممراً محتملاً لفتح طرق إمداد للقصير من وادي خالد والشمال اللبناني، في ظل انحسار الدعم الآتي من عرسال. فقرى حوض العاصي قائمة على أراض شاسعة، وكثافتها السكانية منخفضة. ويؤكد بعض المشرفين على العمل العسكري فيها أن المسلحين المعارضين ظنوا هذه القرى لقمة سائغة يمكن قضمها بسهولة، لتُفتح طريق الدعم أمامهم.
وكلما تقدّم الجيش السوري قرب مدينة حمص، عادت المجموعات المسلحة إلى قرى حوض العاصي. قبل أسابيع، استعاد الجيش جوبر والسلطانية من مقاتلي «الفاروق» و«النصرة»، فهاجم المسلحون بلدتي الحمّام والعقربية. صدّهم أهل القرى، بلجانهم الشعبية المدعومة من حزب الله والجيش السوري، وأنزلوا بهم خسائر بشرية كبيرة. ثمة هدف آخر للهجوم على هذه القرى: أهلها لبنانيون، ومعظمهم من الطائفة الشيعية، ولحزب الله وجود فيها. هنا، يمكن المعارضة السورية أن تقول بالفم الملآن إن حزب الله يقاتل ضدها. تهاجم القرى، وإذا صدها أهلها، تقول إنه حزب الله.

وجود الحزب في المنطقة «ظاهر» للعيان. تماماً كما في البلدات اللبنانية. لا يمكن رؤية مقاتل منه. وحدهم رجال «اللجان الشعبية» حاضرون. صور أمينه العام قديمة غيّرت الشمس والأمطار ألوانها. وفيها صور لشهداء المقاومة في الجنوب، أو لأولئك الذين سقطوا أخيراً دفاعاً عن قراهم. حتى شعار «لبيك يا رسول الله» الذي رفعه حزب الله خلال الأشهر الأخيرة في البقاع والضاحية والجنوب وصل إلى هنا. مثله كمثل الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي لا تخلو بلدة من محازبين له. المنطقة امتداد للهرمل والقصر. لا شيء يميز بين طرفي الحدود إلا الخضرة: الجرد في البقاع اللبناني، والخضرة في القرى السورية التي يعيش فيها لبنانيون. فخلف الحدود، يحصل اللبنانيون، كما السوريين، على السماد الزراعي من الدولة السورية التي تشتري محاصيل المزارعين. ربما لهذا السبب يصبح التبن مادة صالحة للتهريب من ريف القصير إلى الهرمل. تهريب لا ينقطع، حتى في عز المعارك.

خلف الحدود، لا شيء يعلو فوق رائحة الحرب. الناس يقاتل بعضهم بعضاً. يقول مقاتلون في حوض العاصي: «نعرف من يهاجموننا. في بداية الأزمة، آوينا عائلات بعضهم. ولا ننسى أنهم احتضنوا اخوتنا واهلنا في حرب تموز 2006». يكثر الحديث هنا عن الأجانب الذين يقودون معارك المعارضة، والذين لا يذكرهم أحد عندما يقتَلون.
الحرب السورية لم تترك شيئاً إلا ومزقته. الأخوة يتقاتلون. الطفلة التي هجّرها جيرانها المسلحون من قريتها لتسكن مع أكثر من 10 عائلات في منزل واحد لا يتسع لعائلتين، هل من يقنعها بأن الحل ليس في حمل السلاح «عندما أكبر»؟ لم تعد قرى حوض العاصي هانئة تعيش ببطء الريف اللامتناهي. صارت ساحة حرب وتهجير ودفاع عن النفس. أهلها فتحوا دورهم لجيرانهم. صاروا يشكون نقص الخبز والغاز. الغسانية تحت حصار بعض جيرانها وأولئك الآتين من خلف البحار. وحدها بحيرة قطينة تمدها بالحياة، وتصل غرب النهر بشرقه. في «الميناء» الذي أقيم في دبين، فوق «شبه جزيرة» قرب المسجد، يصعب إخفاء التعب على وجوه المسافرين الذين لم يعتادوا حياة الحرب بعد. لكن كل الإرهاق لن يمنعهم من الضحك وهم يضيّفون زوارهم جزراً آتياً من الغسانية: هذه أرضنا. وهنا سنبقى إلى الأبد.

السابق
الاخبار: الحوض العاصي لبنانيـون خلف الحدود
التالي
7 أيار صيداوي