وسطيّة»غير مفلحة وسط الإقطاع والطائفية

واهمون دعاة «الوسطيّة» في لبنان إن ظنّوا أنّهم قادرون على خلق حالة ثالثة بين الإقطاع السياسيّ والطائفية المذهبية والسياسية، وأنّ في وسعهم استقطاب «منضوين» جدد إلى خطّهم المزعوم في الوسط ضد المعسكرين الأساسيين في البلد، 8 و 14، وأنّهم الخلاص والحلّ الأوحد، وأن الأمر يستحقّ منهم سعياً دؤوباً، مؤمناً، عنيداً، إلى شقّ خطّ ثالث «وسطيّ» أو «مستقلّ» يبغي التأكيد على أنه ليس مع هذا الطرف أو مع ذاك، وأنّ مبادئه وأهدافه الوطنية مختلفة عن مبادئ كلا الفريقين وأهدافه، وأنّ الذين يريدون فعلاً إنقاذ الوطن من كل آفاته ومشاكله عليهم الالتحاق بهذا الخطّ «الوسطيّ المستقلّ»، علّ كرة الثلج تكبر وتغدو الأعظم والأفعل بين سائر الأطراف والجهات وربما الأحزاب أيضاً، خاصة العريقة منها واللاطائفية، إذ ينحو هذا الخطّ الثالث إلى الابتعاد حتّى عن الأحزاب اللاطائفية، وفي طليعتها الحزب السوري القومي الاجتماعي، منعاً لوسم الخط الجديد بأيّ سمة معروفة، أو للإيحاء أنه «حزب وسطيّ» جديد ومستقلّ يشبه الأحزاب الوسطيّة في أوروبا، فرنسا تحديداً، حيث وقف فرنسوا بايرو قبل سنوات، مثلاً، في الوسط بين اشتراكية سيغولين رويال ويمينية نيكولا ساركوزي، لكن مع إغفال أركان «الوسطيّة» عندنا واقع اختلاف مكوّنات المجتمع وبناه «اللاحزبية» وتعدّده الطائفي ونظمه الاجتماعية المتخلّفة بين إقطاع وحكم عشائر وعائلات، فضلاً عن ضعف الحياة الحزبية فيه وطغيان الانتماء الطائفي والعائلي، وانعدام الثقافة السياسية الحقيقية وغلبة الحسابات المصلحيّة الضيّقة على قضايا التنمية والتطوير والاقتصاد والبيئة والعلوم والتربية، إلى ما هنالك من أولويات في المجتمعات المتقدّمة التي سبقتنا في التنظيم السياسيّ والحزبيّ والتنمويّ والعلميّ والبيئيّ، فيما لا نزال نقبع داخل أسوار التخلّف والرجعية والأشكال القديمة للسياسة والحكم.
يعرف دعاة «الوسطية» في أعماقهم، أو ينبغي أن يعرفوا:
أولاً، أن اقتطاع جزء من شعبية رجال الإقطاع السياسي في مختلف المناطق اللبنانية، وبخاصة في جبل لبنان، ليس أمراً واقعياً على الإطلاق، إذ يستمرّ الولاء الأعمى منذ أجيال وعقود مديدة لصورة الزعيم «الأيقونية»، وهو ثابت في زعامته بفضل إرث عائلي تدعمه ربما كاريزما ذاتية خاصة، فيسيّر شؤون إقطاعه الطائفيّ و»الحزبيّ» والعائليّ وفق ما يرى وأنّى اتجه في مواقفه وتحالفاته، والأتباع المحكومون برضاهم أو عدم رضاهم يتبعون وينادون لزعيمهم الملهم «بالروح، بالدم، يا بيك»… لذا فإن دون حلم «الوسطيين» هذه «الصخرة» الإقطاعية الطائفية التي لا جدوى من نطحها على أمل تفتيت أجزاء منها.
ثانياً، أن استمالة رعايا الطوائف التابعين في حماية مرجعياتهم الطائفية من رجال دين أو زعامات سياسية طائفية، أيضاً دونها مشقّات جمّة تداني الاستحالة، فالنسبة الأعظم والطاغية في المجتمع اللبناني مكوّنة من جموع أو جماعات طائفية كبيرة العدد، لدى كلّ الأديان والطوائف والمذاهب، فالشعور الطائفي والانتماء الطائفي ما برحا طاغيين في الخلفية التربوية لدى معظم اللبنانيين، ولا يزال شعوراً مدغدغاً ومغوياً، وإن مقنّعاً بشعارات اللاطائفية والتعايش، فاللبناني يشعر بنفسه «عارياً» لو خرج من جلد طائفته وملّته وعائلته ومنطقته، إلاّ إذا كان منتمياً في اقتناع إيديولوجيّ تامّ إلى حزب لاطائفي مدني علماني، وهنا يختلف الوضع، مع بقاء الغلبة للأعداد الهائلة التي تتشكّل منها المجتمعات الطائفية في بلادنا، مسيحية، سنية، شيعية، درزية، إلى آخر قائمة الطوائف والمذاهب ذات المناطق من لون واحد «نقيّ» أو قليل التمازج مع ألوان أخرى… لذا يصعب كثيراً على «الوسطيّة» الواهمة المزعومة أن تخترق أسوار الطوائف والمناطق لتجذب إليها أعداداً كبيرة من الوطنيين «الوسطيين» اللاطائفيين الذين خلعوا عنهم رداء الطائفية والزعيم ليرتدوا لباس المواطنة المجرّدة.
ثالثاً، إن الإيهام بأن «الوسطيّة» هي على مسافة واحدة من باقي الأطراف، وبأنها تساوي بين هذا وذاك لناحية الرفض والاستقلال هو من ضروب «الدونكيشوتية» الحالمة والهوائية التي لا تستند إلى واقع، فالمؤمنون بالمقاومة (حتى في صبغتها الطائفية الطاغية) هم من طوائف متعدّدة ويرون أن العداء لـ»إسرائيل» ومواجهتها والبقاء على أتم الجهوزية للتصدّي لها لا يمكن أن يكونوا «وسطيين» تأييداً أو رفضاً، فهم مؤيّدون مئة في المئة ورافضون مئة في المئة لأيّ موقف «وسطي» قد يكون ملتبساً في مسألة دعم المقاومة أو حتى رافضاً لها (مثل على ذلك مواقف النائب بطرس حرب الذي يصنّف نفسه أحياناً، وساعة يحلو له، في خطّ «وسطي» يمثله رئيس الجمهورية، وهو معروف بعدائه ورفضه المطلقين للمقاومة وسلاحها خاصة، لدى انضمامه إلى اجتماعات «14 آذار»، فأيّ نموذج يقدّمه النائب حرب عمّا يُسمى «وسطي» أو «مستقلّ»؟!).
بالتالي، من المستحيل أن يغنم «الوسطيون» مؤيدين من الوسط الشعبي الحاضن للمقاومة، علماً أننا نتحدث هنا عن مئات ألوف اللبنانيين، من الشيعة ومن طوائف أخرى. كذلك الأمر بالنسبة إلى مؤيّدي طروحات «14 آذار» أو المؤمنين بها، كيف يتخلّون عن تموضعهم هذا ليلتحقوا بـ»وسطيّة» غير محدّدة المواقف في القضايا المصيرية، من وجهة نظرهم.
إذن لا يمكن أن يساوي «الوسطيّون» بترف سياسيّ يمارس في القصور والأبراج العالية بين مقاومة ذات قاعدة شعبية هائلة وحركة سياسية (14 آذار) تعمل سرّاً وعلناً لمشروع أميركي تنفّذه بحذافيره وفق توجيهات وتعليمات وتمويل ماديّ ولوجستيّ؟
لا شيء في هذا الوضع اسمه «على مسافة متساوية من الجميع وبعيداً عن كل الأطراف»، كأنّما لا طرف يملك الحق أو بعضه على الأقل وينطق به ويعمل لأجله، وكأنّ الحق المطلق والحقيقة الكاملة هما في موقع «الوسطيين» ونظرتهم ومشروعهم الوطني، فيما لا يتعدّى الأمر كونه معركة دونكيشوتية خاسرة ضدّ عدد لا يحصى من طواحين الهواء العملاقة.

السابق
القوى الامنية تقطع الطريق المؤدية الى بشارة الخوري
التالي
جعجع : قرار دولي وعربي ابلغ الى المسؤولين بضرورة اجراء الانتخابات بموعدها