المسكوت عن وجوده مـن اللبـنانيـين

انهارت صيغة لبنان السياسية التي نشأت منذ الاستقلال حتى الحرب الأهلية. كان الجمود السياسي لتلك الصيغة سبباً في اندلاع الحرب. فاضت تطورات المجتمع عن حدود النظام السياسي المغلق عن استيعابها. انتهت الحرب إلى بناء نظام سياسي جديد في الدستور أو في الواقع. في الحالين لم تكن الصيغة الجديدة قابلة للتطوير السلمي الديموقراطي بقطع النظر عن الأسباب المتعددة. انهارت الصيغة مجدداً بتغيير مرتكزاتها أو عناصرها الداعمة في الداخل والخارج. يكرّر اللبنانيون خطيئة الاعتداء على المشروع اللبناني، على الفكرة اللبنانية، على الدولة، في معرض البحث عن نظام سياسي جديد.
في أصل المشكلة غياب المشروع الوطني والقيادة الوطنية والكتلة الوطنية الشعبية العابرة للطوائف. فلا يمكن أن يعيد اللبنانيون بناء اجتماعهم السياسي الموحد بمشاريع طائفية متناحرة. ويستحيل ذلك طالما تدور العملية السياسية كلها على إقصاء فئات واسعة من المجتمع، بل إلغاء وجود مجتمع خارج الدوائر الطائفية.
قامت السلطة بعد الحرب بقواها الداخلية وبالوصاية السورية، بتدمير ركائز ومؤسسات المجتمع المدني ومواقعها، بتدابير أمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية واعية. فلم يكن ممكناً لسلطة سياسية تابعة لسلطة وصاية استمدت قوتها من مصادرة مجتمعها هي، أن تحكم وأن تجعل لبنان مساحة استثمار لمشاريع اقتصادية خاصة، ومشاريع سياسية خاصة، بمعزل عن مصالح اللبنانيين. لم يكن ذلك ممكناً إلا بتفتيت المجتمع وإبقائه أسير نزاعات الخوف والتخويف والحاجة إلى الأمن. هكذا كانت سنوات الوصاية ممددة عبر تهديد اللبنانيين بعودة الحرب الأهلية. ولطالما صار شعار إلغاء الطائفية السياسية وتطبيق الإصلاحات الدستورية وسيلة لتهديد حرية الجماعات وحقوقها كي ترضخ لنظام الاستبداد السياسي المزدوج اللبناني العربي. خلال هذه «الفترة المشبوهة» تمّ اقتسام الدولة حصصاً طائفية وتفكيك القوى السياسية المدنية والنقابات وبعثرة المصالح الاجتماعية حتى لم تعد هناك قوى وازنة لمقاومة هذا المسار التمزيقي المتمادي للنسيج الوطني. ومن أسف الاستنتاج أن منظومة الاستبداد هذه سقطت وتسقط في العالم العربي لحظة تجتمع عليها قوى خارجية دولية وتلقى استجابة شعبية لم تعد تطيق استمرار هذه المنظومة. فالاستبداد يهدم قوة المجتمع ومناعته أمام الحاكم وأمام الخارج. هذه المفارقة العجيبة المرّة القاهرة التي جعلت من الشعوب أسيرة مكرهة على شكل من التناغم بين ثورتها على الاستبداد وبين تدخل الخارج الدولي لتبديل أتباعه أو تغيير منظومات سياسية لأهدافه ومصالحه. هكذا كان الواقع على مستوى العالم كله، إذ كانت الحروب الاستعمارية والامبريالية المناسبة الملائمة لثورات التحرر الوطني والقومي والثورات الاجتماعية والسياسية.
في الحرب العالمية الأولى تحرّر العرب من الاستعمار العثماني، وفي الحرب العالمية الثانية تحرّر العرب من الاستعمار الأوروبي الغربي، وفي هذه الحرب العالمية الثالثة تسعى الشعوب العربية للتحرر من الأنظمة السياسية القائمة. أحببنا هذا المسار أم كرهناه، فهو حاصل بقوة الوقائع الجارية بغير إرادتنا وربما بغير وعي منا. فلم يصمد التيار الداعي للحفاظ على الرابطة الإسلامية (العثمانية) أمام موجة القومية العربية مطلع القرن الماضي. ولم تنجح القوى التي راهنت على الإفلات من الصراعات الدولية خلال نصف القرن الماضي. وها نحن اليوم ندفع ثمن هذا النزاع الدولي وتفاهماته، كما ثمن الرهانات هذه وضعف مقومات الاستقلال في حركات التغيير، والثقافة السياسية المتخلفة والانتهازية التي تطلب السلطة كهدف بحد ذاته. فلا يمكن أن تأتي النتائج مختلفة عن طبيعة القوى الفاعلة فيها.
خلال هذا المخاض اللبناني الذي امتد أربعة عقود من التجريب المكلف لإيجاد صيغة سياسية مستقرة لم نختبر الفصل الضروري بين حاجات الطوائف وحاجات المواطنين، بين الطائفية كضوابط للمشاركة وعدم الهيمنة وحرية الجماعات، وبين المواطنة كأساس في الانتماء إلى الدولة الواحدة. كنا ولا نزال نقتتل على تأكيد الحق الأول وإلغاء الحق الثاني. كل الوعود عن إنشاء دولة مدنية مخادعة من دون حقوق المواطنة، بل كل الوعود عن استقرار مستحيلة في ظل مصادرة الطوائف لحقوق أفرادها. فعلياً لا يصيب الأفراد من امتيازات الطوائف إلا النذر اليسير المحصور في النخب صاحبة النفوذ والحظوة. ولا يصيب المجتمع كله إلا الخراب.
أخطر ما يجري الآن من صراع على قانون الانتخاب، أي على السلطة، انه لا يلحظ أبداً المشترَك اللبناني لا على الصعيد السياسي (الطائفي والمدني) ولا على الصعيد الاجتماعي. فكأن قانون الانتخاب مثلاً يجب أن يقر خارج أو بمعزل عن حركات الاحتجاج الاجتماعي المتصاعدة في البلاد. وكأن السلطة التي يجب أن تحكم لا شأن لمشروعها بحاجات اللبنانيين المعيشية. هذا فضلاً عن فجاجة غير محدودة في تصنيف الطوائف وحقوقها وسلّم ترتيبها في السلطة. إن مصالح أكثر من مليون منتج لبناني تمثلهم «هيئة التنسيق النقابية» لا توازي «حقوق عشرة آلاف ناخب ينتمون إلى فئة لها هوية طائفية». هذا هو التناقض المريع الذي لا تعترف به الطبقة السياسية وتسعى إلى تجاهله بل إلغائه من المعادلة الوطنية. فلا أمل بقيامة هذا البلد والنهوض من هذا الانحطاط السياسي إلا بحوار جميع مكوّناته والاعتراف بجميع مصالح أبنائه. فهل من مبادرة تَرُدُّنا من مفاوضات القبائل الطائفية إلى حوار كل اللبنانيين؟

السابق
ميشيل أوباما تبحث عن وظيفة اخرى
التالي
مقبرة خاصة لـice cream