الانتخابات اللبنانية الطوائفية

فتّش عن «الدول» في هذا الجدل البيزنطي المفتوح حول مشروع القانون الجديد للانتخابات النيابية في لبنان، والذي يعيد من كانوا «مواطنين مفترضين» في شعب واحد له هويته الواضحة إلى رعايا لطوائفهم ومذاهبهم التي لا تفتأ تتوالد وتتزايد مع كل هجرة أو تهجير جديد «للأقليات» في الأقطار الشقيقة، حتى ليقال إنها بلغت ثماني عشرة، ما عدا السهو والغلط.
ففي لبنان لكل «عهد» جمهوريته، ولكل جمهورية مستولدة قانون انتخابي يتلاءم مع قوى التأثير والنفوذ المستجدة، عربياً، تحت مظلة دولية مناسبة، لا يلغي التجديد فيها ثوابت الولاء القديم.
ألا يقال إن أول رئيس لدولة الاستقلال قد حسم اختياره الجنرال سبيرز الذي كان الوزير المفوض في السفارة البريطانية في بيروت؟!.. وأن الرئيس الثاني قد حسمت اختياره سوريا، بالتوافق مع «الغرب» عامة، بينما حسمت دولة الوحدة بين مصر وسوريا بقيادة جمال عبد الناصر اسم الرئيس الثالث، مع تجنب الفيتو الأميركي، وكذلك جرى مع الرئيس الرابع، ثم مع سوريا الرئيس الخامس بالشراكة مع الصوت الجنبلاطي ـ السوفياتي الحاسم، والسادس مع سوريا والفلسطينيين بالشراكة مع الأميركيين، أما السابع فقد فرض اختياره الاحتلال الإسرائيلي في العام 1982، وكان شريكاً في اختيار الثامن، ثم تم تسليم الأمر لسوريا بالشراكة مع الأميركيين في اختيار التاسع ثم العاشر ثم الحادي عشر القائم بالأمر… وإن كان العالم كله قد اجتمع فيه ومعه!
من هنا التصنيف الشائع للعهود بين سورية ومصرية وفلسطينية، دون أن يعني هذا التوصيف غياب التفاهمات الدولية، الغربية أساساً، عن صورة أي من هذه العهود، وإن اختلفت نسب الحضور الدولي تبعاً لقوة التأثير العربي.
اليوم، وفي ظل التطورات الدراماتيكية التي تشهدها دول المشرق العربي، خاصة، والمنطقة العربية عموماً، يتبدى وكأن «التجربة اللبنانية في الديموقراطية» مرشحة لأن تعتمد بمباركة دولية، بل بتخطيط دولي، في دول الجوار اللبناني من سوريا إلى العراق وصولاً إلى اليمن… قبل الحديث عما يدبّر لمصر وليبيا وتونس في ظل الحكم الإخواني المعتمد أميركياً.
فمع تفجر الدم أنهاراً في سوريا، في صراع يقترب أكثر فأكثر من طابع الحرب الأهلية بشعارات طائفية ومذهبية وعرقية، تتزايد «التقديرات» و«التحذيرات» الدولية ومعها بعض العربية من تمزق الدولة عبر مصادمات جهوية تمهد لتقسيم الكيان القائم حالياً على قواعد طائفية وعنصرية.
وليست سرية تلك الأحاديث الرائجة عن أن الصراع بين النظام ومعارضاته، لا سيما الخارجية المسلحة والمعززة بالأصوليين والسلفيين، والتي تنحو منحى الفرز الطائفي والعنصري، يفترض أن يؤدي ـ وبمساعدة بعض دول الغرب وبعض أهل النفط العرب ـ إلى قيام كانتونات عدة (علوية في الساحل، كردية في الشمال الشرقي، درزية في الجنوب، سنية في القلب والعاصمة إضافة إلى حلب، وربما أقطع الأرمن كانتوناً صغيراً في بعض أنحاء الشمال)… وكل ذلك على أنقاض الدولة المركزية.
كذلك فإن الأحداث الجارية في العراق، وتحت عنوان معارضة «الحكم المذهبي»، تتجاوز تدريجياً المضمون السياسي لتتوغل في المنحى الانفصالي على قاعدة طائفية ـ عرقية، بحيث تقام ثلاث دويلات ضمن الكيان الكونفدرالي الواحد: كردية في الشمال، وسنية في الغرب، وشيعية في القلب والجنوب..
ولعل نجاح «الانفصال ضمن الوحدة» في الشمال الكردي قد شجع المخططين للتخلص من دولة العراق المركزية، التي كانت أقوى من محيطها جميعاً ذات يوم… وليس سراً أن العديد من دول الجوار لا ترغب في أن يستعيد العراق دولته المركزية التي طالما رأوا فيها خطراً داهماً على كياناتهم وعلى تمتع الأسر المالكة بثرواتها الطائلة بعيداً عن «هموم الأمة» بدءاً بالعدو الإسرائيلي وصولاً إلى «مخططات الهيمنة الأجنبية على الثروة القومية»… خصوصاَ أن هذه الثروة الأسطورية باتت تستعمل كسلاح سياسي فتاك في العديد من الأقطار العربية، مشرقاً ومغرباً. وها هي الحملات المتبادلة بين دمشق وأهل النفط وبين بغداد وبعض هذه الأنظمة تتجاوز إطار الاعتراض السياسي إلى الاتهام بالعمل المباشر لإسقاط الأنظمة الجمهورية والدول ذات القوة الذاتية والتي طالما لعبت دوراً قيادياً في المنطقة عموماً، واعتبرت البوابة الشرقية ومصدر الحماية القومية لدول النفط.
أما اليمن فيتبدى ممنوعاً من أن يتوحد، تتهدده دعوات انفصالية معززة ومدعومة من خارجه الغني، وأحياناً من داخله الفقير والمبعثر بين أحزاب القبائل وقبائل الأحزاب.
في ضوء هذه الخريطة السياسية لدول الجوار اللبناني حيث يتداخل الدين في السياسة، وحيث تتقدم الأحزاب والتنظيمات الإسلامية نحو السلطة في عدد من الأقطار العربية متسببة في إضعاف وحدة شعوبها وإنهاك دولها، لا يستغرب أن يعتمد النظام اللبناني نموذجاً لمستقبل الكيانات العربية التي يجري العمل لاستيلادها بالفتن الطائفية والحروب الأهلية.
وربما كان هذا النقاش العبثي المستفيض حول القانون الأشوه الذي يجري إعداده لانتخابات تحول لبنان إلى كونفيدراليات طوائفية ومذهبية، بعض التمهيد العملي لتعميم النموذج اللبناني على «دول المحيط» التي سوف تستخرج من أتون الحرب الأهلية بالشعار الطائفي أو المذهبي، وإن اتخذت من طغيان الأنظمة الذريعة والمبرر وشهادة الميلاد!
وإنه لإنجاز تاريخي أن يقسم أهل لبنان إلى 18 شعباً… بالديموقراطية!
.. وأن تعتمد القاعدة ذاتها مع سوريا والعراق وصولاً إلى اليمن… وتعتمد قواعد مماثلة وبالشـعار الديني في محيط دول الشمال أفريقي.

السابق
لبنانيو الخليج ولامبالاة المسؤولين
التالي
عن الشعوب في بلاد العرب