ما “السر الدولي” وراء انفجار المنطقة العربية؟(الحلقة -2)

استعرضنا بالأمس الأفكار الرئيسة في كتاب إيمانيل تود المشوَّق "مابعد الامبراطورية"، وأبرزها قوله: "كل شيء يدل على أن الولايات المتحدة ، ولسبب غامض ، تعمل للحفاظ على درجة من التوتر الدولي : حالة حرب محدودة ولكن دائمة" ، وتساءلنا: أين يتركنا كل ذلك؟
ليس هناك، برأي المؤلف، تفسير مُرضٍ للسلوك الاميركي ،الذي كان إمبريالياً حميداً بعيد الحرب العالمية الثانية، عدا ذلك الذي يقول بأن الولايات المتحدة باتت تشعر بأنها لم تعد مفيدة للعالم. وهذا يمكن أن يفسر قلقها وتوتر بعض توجهات سياساتها الخارجية. تهميش أميركا قد يكون مفاجئاً لعالم يعيش وهم القوة الاميركية الطاغية. لكن ، هذه هي الحقيقة : اميركا التي لم يعد في وسعها العودة الى العزلة ، تخشى الانعزال في عالم لم يعد يحتاجها .
خوف أميركا من الانعزال ليس أمراً مستجداً. فحتى حين كان تعيش في عزلة في القرن التاسع عشر، إلا أن هذا لم يكن إنعزالاً لانها كانت متصلة بالعالم إقتصادياً ومستقلة عنه سياسياً ودبلوماسياً. منذ وقت مبكر، كانت أميركا في حاجة الى المال والعمال المهرة من الخارج، خاصة من اوروبا .
في الحرب العالمية العالمية الاولى، لم تكن الولايات المتحدة في حاجة الى العالم. العالم كان في حاجة إليها. وبعد الحرب العالمية الثانية كانت اميركا تنتج نصف سلع العالم الأقتصادية، لكن في تلك الفترة بدأت تحولات خطيرة. فنظام العولمة الذي أقامته اميركا في أوروبا واليابان إستناداً الى فتح أسواقها في إطار التجارة الحرة، ادى في النهاية الى تغيير بناها الداخلية هي نفسها، فأضعف إقتصادها، وشوّه مجتمعها.. وحينها، باتت أميركا معتمدة على العالم بدل أن يكون العكس هو الصحيح. العجوزات التجارية الاميركية بدات بالظهور في السبعينات، وأصبحت منذ ذلك الحين معلماً بارزاً من معالم الأقتصاد العالمي .
سقوط الشيوعية أدى الى تسارع الأعتماد الاميركي على العالم. فبين 1990 و2000 قفز العجز التجاري الاميركي من 100 الى 450 مليار دولار. وفي بداية القرن الحادي والعشرين، لم يعد في وسع اميركا ان تعيش مما تنتج. وهنا نشأت المفارقة: في الوقت الذي كانت فيه بقية دول العالم تستقر بفضل التقدم في الصحة والتعليم والديموغرافيا والديموقراطية فتصبح غير معتمدة على أميركا، لم يعد في وسع هذه الأخيرة العيش من دون العالم.
لكن مهلاً. إذا ما كانت الولايات المتحدة إنحدرت الى درجة كبيرة كقوة إقتصادية، إلا انها نجحت الى حد كبير في إمتصاص ثروات الأقتصاد العالمي. وهذا مايدفعها الى القتال سياسياً وعسكرياً للحفاظ على هينتها بصفتها قوة لايمكن الأستغناء عنها في العالم. وهذا الان يطرح المشكلة الاتية بالنسبة للعالم: كيف يمكن التعاطي مع قوة عظمى معتمدة على غيرها إقتصادياً، لكنها أيضاً بلا فائدة سياسياً ؟.
– II –

هذه التطورات في السياسة الخارجية ترافقت مع أخرى لاتقل خطورة في الداخل الاميركي. فالمجتمع يتغير الى نظام لا مساواتي الى حد كبير. وهذه نقطة اوضحها بجلاء الكاتب الاميركي مايكل ليند في كتابه " الأمة الاميركية الجديدة "، والتي ركَّز فيها على بروز طبقة فاحشة الثراء تمسك بكل مفاصل الأقتصاد الاميركي، وتعيد توجيه السياسات الأقتصادية بما يكرسّ اللامساواة الى حد كبير. وهذا مايضعف الأن الديموقراطية الأميركية، في الوقت ذاته الذي تتقدم فيه هذه الديموقراطية في العالم .
إن إنتقال الولايات المتحدة الى الأوليغارشية ( حكم الأقلية ) المتطرفة، يدفع الى توقُّع قيامها بمارسات عدوانية ومغامرات عسكرية أكثر خطورة. لا بل لايمكننا الأن إستبعاد أن تشن هذه الأعتداءات حتى على دول ديموقراطية، لان النخب الأوليغارشية مستعدة لأشعال الحروب بين الديموقراطيات.
العالم ، إذا ، يقف أمام تناقضين: الاول الاعتماد الأقتصادي الأميركي الجديد على العالم، والثاني التوزيع الجديد للطاقة الديموقراطية في كل انحاء العالم ،خاصة في قارة أوراسيا .
وحالما نضع هذه التطورات بعين الاعتبار ، نستطيع أن نفهم بعض أسباب غرابة التصرفات الأميركية. فبما أن الديموقراطية تضعف في داخل أميركا نفسها، سيكون من الصعب على هذه الأخيرة الدفاع عنها في العالم. الأولوية الأولى لأميركا الان هي الحصول على السلع والموارد والرساميل من العالم. وبالتالي ، من الان فصاعداً سيكون هدف الولايات المتحدة هو السيطرة السياسية على موارد العالم.
بيد أن القوة الأقتصادية والعسكرية والأيديولوجية المنحدرة للولايات المتحدة، لاتسمح لها بالسيطرة بفعالية على العالم الذي أصبح شاسعاً، وكثير السكان، ومتعلماً، واكثر ديموقراطية. وإخضاع العقبات الحقيقية أمام الهيمنة الاميركية (أساساً اللاعبين الأستراتيجيين الآوروبيين والروس واليابانيين والصينيين) هي ببساطة مهمة مستحيلة. سيكون على أميركا بشكل متزايد التفاوض مع هذه القوى، والرضوخ لها في كثير من الأحيان.
لكن في نهاية المطاف، سيكون على الولايات المتحدة العثور على حل، سواء أكان حقيقياً أو متخيلاً ، لتبعتيها الأقتصادية المقلقة للعالم.
حتى ذلك الحين، ستفعل الولايات المتحدة كل ما في سعها للبقاء كمركز للعالم، خاصة القيام بنشاطات عسكرية درامية تتمحور حول ثلاثة امور :
1= عدم حل أي مشكلة بشكل نهائي، لتيرير سلسلة لاتنتهي من العمليات العسكرية في كل انحاء العالم من جانب الدولة العظمى الوحيدة
2- تركيز كل الطاقات على الدول الضعيفة كالعراق وإيران وكوريا الشمالية وكوبا .. الخ ، بهدف إستعراض القوة الأميركية ومنع الدول الكبرى الأخرى من التفكير بالقيام بأدوار ما . وهذه الدول هي أوروبا واليابان وروسيا والصين .
3- تطوير أنظمة أسلحة جديدة يتم تسويقها أعلامياً على أنها دليل التفوق الكاسح الاميركي ، في إطار سباق تسلح لا نهاية له.
مثل هذه الأستراتيجية تجعل الولايات المتحدة بشكل غير متوقع عقبة في طريق السلام العالمي. لكن ليس ثمة ضرورة هنا، برأي تود، للأصابة بالهستيريا حول بروز إمبراطورية أميركية ، لأن هذه الاخيرة في الحقيقة في طور التفكك لا الصعود.
– III –
ماذا الأن عن اميركا والعالم العربي – الأسلامي ؟.
يرى المؤلف ان التطرف الراهن في هذا العالم الأسلامي ليس امراً مفاجئاً، بل هو مجرد أزمة إنتقالية مؤقتة ناجمة عن التمزقات التي تسببها الحداثة. لا بل هو يرى ان العالم الأسلامي يتقدم على الجبهتين اللتين ستخرجانه من الأزمة، وهما إنتشار التعليم وإنخفاض معدلات الولادة .
النموذج هنا هو ماليزيا التي بلغت نسبة التعلم فيها 88 في المائة ، وهو يرى ان إيران إقتربت كثيراً لهذين السببين من مصيرها الديموقراطي. لكنه يتوقع إضطرابات في السعودية وباكستان .
ويلاحظ الكاتب ان معظم العنف العسكري الاميركي موّجه ضد العالم الأسلامي ، للأسباب الأتية :
<!–[if !supportLists]–>1- <!–[endif]–>العرب والمسلمون باتوا " الاخر " في العلاقات الخارجية الأميركية ، تماماً كما ان الزنوج والمكسيكيين من أصل هندي أحمر كانوا "الآخر" في داخل المجتمع الأميركي. وهذا ترجم نفسه إنحيازاً اميركياً مطلقاً لأسرائيل
<!–[if !supportLists]–>2- <!–[endif]–>وجهود هوس الاميركي بالسيطرة على النفط العربي، بهدف إحكام الخناق على أوروبا واليابان والصين التي تعتمد عليه كلياً .
<!–[if !supportLists]–>3- <!–[endif]–> رغبة أميركا في ضرب قوى ضعيفة لأبراز مدى قوتها الهائلة. والدول العربية والأسلامية نموذج مثالي لذلك بسبب ضعفها .
هل تنبؤءات تود في محلها ؟.
الثغرة الكبرى في تحليلاته تكمن في إغفاله الكلي تقريباً للأنقلابات التاريخية الكبرى التي تجري على الساحة الآسيوية، والتي بدأت تؤثر بشكل مباشر على ميزان القوى الدولي. صحيح انه يهتم بدور اليابان ، لكنه يغفل دور الصين، ومعها الهند ونمور جنوب شرق آسيا التي باتت الان " الموتور " الحقيقي لأقتصاد العالم.
وفي خضم تنبؤاته لاحتمال قيام حلف روسي – اوروبي قد ينسف أسس الزعامة الاميركية في العالم، يسقط المؤلف إمكانية قيام حلف اميركي – آسيوي في حوضي الباسيفيك والمحيط الهندي، قادر على قذف القارة الاوروبية الى قاع التاريخ .
إضافة ، لايهتم تود بالقضية الخطيرة المتعلقة بالروابط بين ظاهرة تغّير المناخ وبين إنفلات الرأسمالية من عقالها. وهي القضية التي ستسيطر قريباً على جداول الأعمال الدولية بصفتها العامل الأسترايتجي الأهم .
لكن ، وعلى رغم هذه الثغرات ، يشكّل كتاب تود إضافة نوعية الى تلك التحليلات التي تحاول الذهاب الى أبعد من التصورات الراهنة للدور الاميركي الكاسح في السياسة الدولية .
(غدا الحلقة الثالثة: تحليل Global Research لتطورات المنطقة
في إطار السياسة الأميركية والدولية)

السابق
صقر أعطى إشارة لإستدعاء الأسير الى مخفر صيدا لسؤاله عن الإنتشار ا…
التالي
غريب: الإثنين “ستقوم القيامة”