انتهى الطائف 

رحم الله بيار الجميّل. عشية انتخابات عام 2005، وقع على لسانه في خطاب علني له تعبيرٌ ملتبس عن «كمية ونوعية». قامت القيامة ضده. وكانت الأيام زمن تحالف انتخابي مستجد طري العود، بينه وبين فريقه من جهة، وبين فريق سياسي كامل معني بإساءة «الكمية» من جهة أخرى، ما اقتضى المسارعة إلى تطويق الزلة ومعالجتها ومنع ذيولها وتداعياتها. فاجتهد أحد الساعين خيراً بالقول: نتمنى ألا تعطى المسألة أكبر من حجمها. إنها مجرد عبارة وردت عفواً لا غير. فانتفض يومها أحمد فتفت، وأفهم المجتهد أن محاولته إساءة أكبر، وهي معالجة للهفوة بكارثة. قال له: أفضل لكم أن تعتذروا صراحة ومباشرة، من أن تقولوا إنه كلام صدر عفواً. لأن تذرعكم بأن ما قيل ليس غير كلام عفوي، يعني أنكم في عمق تفكيركم إنما هذا ما تؤمنون به، لكن حين تأتون إلى التعبير تجهدون لإخفائه…
في الأيام القليلة الماضية، شهد مجلس النواب عبارات كثيرة من نوع ما «صدر عفواً». ففي مؤتمر صحافي، قال فؤاد السنيورة ما حرفيّته: «لم يقل الدستور إن المناصفة هي على أساس أن يأتي كل فريق من الطوائف اللبنانية بانتخاب ممثليه». ماذا يعني ذلك؟! وردّ عليه أحد النواب من خصومه بالقول: «إذا كنتم تعتقدون أننا لا نستحق نصف النواب، فقولوا لنا». وهل السؤال من نوع مركب النقص لجهة استحقاق النصف؟! قبل أن يصرخ نائب آخر في النقاشات المقفلة: «إنكم تنقلبون على النظام من باب قانون الانتخاب». وفي الحقيقة ثمة الكثير من المعتقدات المكنونة والمكبوتة في هذا الكلام. ما كان ينقص ذاك الحوار المتقطع وغير المباشر، أن يقول الجميع بصوت واحد: نعم نريد، بل يجب تغيير النظام.
لماذا؟ لأنه نظام مضى عليه ربع قرن. والمعادلة اللبنانية لم تحمل ولم تحتمل صيغة جامدة لربع قرن في تاريخها، تحت طائلة الانفجار أو الانهيار. ولأنه نظام وضع في ظروف غير سوي، يكفيه أنه لم ينطلق إلا تحت جنازير الدبابات السورية. ولأنه نظام لم يحظ يوماً بموافقة طوعية إرادية تلقائية حقيقية صادقة من أكثرية اللبنانيين. ولأنه نظام فصّل على قياس ضابط وصاية. لم يمش خطوة إلا في ظل هيمنته، ولم يمش أي خطوة في غيابه. ما ينذر باستجلابه المستدام للوصايات وضباطها، أكانوا في عنجر أم في عوكر أم في أي وكر آخر أم أخطر.
كان ينقص مناقشات المجلس النيابي حول قانون الانتخابات أن يعترف أصحاب اللوحات الزرق بأن النظام يحتضر، وأن الواجب الوطني يقتضي البحث عن غيره. انتهى نظام الطائف في لبنان وانتهت صلاحيته. تماماً كما انتهى نظام سايكس بيكو في المنطقة وانتهت مفاعيله. وفي محيطنا يقال إن نهاية سايكس بيكو تفرض الذهاب إلى ما قبله أو ما بعده. أي إما العودة إلى «سلطنة» ما، وإما إعادة التقسيم وفق حدود الجماعات لا وفق مصالح باريس ولندن. كذلك في الداخل تقتضي الحقيقة المرة القول إن نهاية نظام الطائف تقتضي إما المراوحة في تجميل تشوهات ما قبله، وإما الذهاب مباشرة إلى ما بعده.
الخيار الأول، يعني أن يعمد اللبنانيون، وبلا حرب عبثية مجانية هذه المرة، إلى إعادة توزيع مغانمهم على قبائلهم والعشائر، فيحفظوا من الطائف شقّه الميثاقي، ويكيّفوا شقه التنظيمي مع ما استجد من معطيات وما ظهر في تطبيقه من عثرات وثغرات. و«الميثاقي» في الطائف ثلاث تسويات لا غير: أولاً عروبة البلد مقابل نهائية كيانه. وثانياً، الشراكة في السلطة مقابل السيادة في الدولة. وثالثاً مركزية السلطة السياسية، مقابل لامركزية السلطات الإنمائية والإدارية والخدماتية. هذا كل ما هو ميثاقي في النظام المنتهية صلاحيته. أما الباقي فيذهب إلى إعادة النظر: أي سلطة تنفيذية وكيف تقوم، وفق أي مهل دستورية وأي آليات، من الاستشارات الغامضة إلى النظام الداخلي لمجلس الوزراء غير الموجود. وأي سلطة تشريعية وكيف تعمل، من مهل الاقتراحات والمشاريع، إلى من يملك مفتاح باب المجلس وكيف يستعمله، انتهاءً بقانون انتخابات عضوي بمفاعيل دستورية، وصولاً إلى سلطة قضائية لم تقم لحظة كسلطة دستورية، إلا في نص شكلي، تماماً مثل شكليات نصوصنا الأخرى وكليشيهاتها، من ديمقراطيتنا إلى برلمانيتنا إلى سيادتنا والحرية.
أما الخيار الثاني، فأن نملك جرأة هذا الزمن، وأن نذهب أبعد. إلى دولة مدنية كاملة، أساسها الدستوري والفقهي والحقوقي حرية الضمير. منه تنبثق حرية المعتقد، اعتناقاً أو تغييراً أو ارتداداً. وبه تُفصل كل مؤسسات الأديان عن كل مؤسسات الدولة فصلاً كلياً كاملاً. ومنه يولد مفهوم المواطن الفرد، وسواسيته حيال كل قانون أمام دولته الواحدة. فتتكرس البنية الوطنية لكل الحريات الفردية والحريات العامة. إنه خيار العصر، خيار الجرأة والريادة. تحت طائلة النزع في أزمنة الموت البطيء، أو الخبيث، أو الرحيم، لكنه يظل في كل أشكاله وأنماطه، موتاً أكيداً.

السابق
AUT أطلقت حملة فحوص مجانية
التالي
جبهة النصرة بمواجهة حزب الله