أوباما والخليج: انقلاب “باسيفيكي- إديولوجي”

-I –
تساءلنا بالأمس(الحلقة الثالثة من "الاستراتيجية الأميركية"): هل ثمة تأثيرات لسياسة "الاستدارة" الأميركية(Pivot ) نحو آسيا على توجهات واشنطن في الشرق الأوسط؟

مرسي وكلينتون: حلف أميركي مع "إسلام سياسي جديد" (الصورة من غوغل
والجواب: نعم، حتما.
فالولايات المتحدة تعتبر أصلاً أن منح الأولوية في سياستها الخارجية لمنطقة آسيا-الباسيفيك، فرضت سحب كل قواتها من العراق وأفغانستان وإغلاق ملف الحرب فيهما التي استنزفت الخزينة الأميركيةبمبلغ تجاوز التريليوني دولار.
وبالطبع، حين تقرر واشنطن الانسحاب من هاتين الحربين ونقل الموارد منهما إلى منطقة الباسيفيك، لايتوقعن منها أن تنغمس في وقت قريب في حروب أو نزاعات أخرى في الشرق الأوسط، إلا إذا ما تطلّب الأمن القومي ذلك أو تعرَّض وجود إسرائيل إلى تهديد خطير.
وهذا بالتحديد، على أي حال، ما فعلته إدارة أوباما خلال السنتين الماضيتين:
– فهي لم تلعب في حرب إسقاط القذافي سوى دور داعم لفرنسا وبريطانيا. لا بل لم تتدخل عسكرياً هناك، إلا بعد أن بدا واضحاً أن حليفتيها غير قادرتين على حسم الأمور بمفردهما.
– وهي رفضت التدخل ضد الجهاديين الإسلاميين في مالي، وقذفت العبء كله على الطرف الذي له أكبر المصالح في الموارد الطبيعية لمنطقة الساحل الإفريقية: فرنسا.
– ثم أنها (الإدارة) قاومت كل الضغوط التي مارستها عليها كل المؤسسات الأميركية تقريباً، من البنتاغون إلى السي.أي. آي ووزارة الخارجية، لتزويد بعض أطراف المعارضة السورية بالأسلحة المتطورة، خوفاً من أن يقودها ذلك إلى التورط بالتدريج في الأزمة السورية.
-II –

باراك أوباما بعد العراق وأفغانستان، يفعل تماماً مافعله ريتشارد نيكسون بعد فيتنام، حين عمد هذا الأخير إلى تقليص الالتزامات الأمنية- العسكرية الأميركية المباشرة في العديد من بقاع العالم و"لزّمها" إلى قوى إقليمية موالية للولايات المتحدة شاه إيران وإسرائيل في الشرق الأوسط، والبرازيل في أميركا اللاتينية، وتركيا في البلقان وآسيا الوسطى، وحلف الأطلسي في أوروبا، وجنوب إفريقيا والمغرب في القارة السمراء.
والأن يُتوقع أن يفعل أوباما الأمر نفسه في الشرق الأوسط، الذي كان محور الاهتمامات المركزية الأميركية منذ نهاية الحرب الباردة العام 1991. فهو سيعتمد أكثر فأكثر على تركيا في منطقتي الشرق الإسلامي (الدول العربية ودول آسيا الوسطى)؛ وسيكون مهتماً أكثر من أي وقت مضى بدمج إسرائيل في المنظومة الإقليمية الشرق أوسطية من خلال دفعها إلى التحالف مع الدول العربية و(مجدداً) مع تركيا؛ وسيواصل العمل على "تفليس" إيران وتجويعها بهدف دفعها في نهاية المطاف إلى الجثو على ركبيتها، أو التعرُّض إلى الانفجار من داخلها.
وكل ذلك بهدف تقليص الأعباء الأميركية في هذه المنطقة، ونقل الموارد الضخمة التي خصصت لها في السابق إلى منطقة آسيا- الباسيفيك.
-III –
بالطبع، هذا لايعني أن أميركا ستدير الظهر للشرق الأوسط. فطالما أن هناك قطرة نفط واحدة هناك، ستبقى هذه المنطقة، كأمن قومي أميركي، على رأس الأولويات الأميركية، بسبب الدور الكبير للنفط في تحديد من سيكون الأقدر على الإمساك بقارة أوراسيا من عنقها.(ومن يمسك بهذه القارة يحكم العالم).
وبالمثل، طالما أن إسرائيل باقية على خريطة الشرق الأوسط، ستكون إي إدارة أميركية ملزمة بالاهتمام بهذه المنطقة لاعتبارات محلية أميركية، واستراتيجية عامة، وأمنية.
لكن هذه الاستمرارية في الاهتمام لن تعني أنه لن يكون هناك تلاويين جديدة في السياسة الأميركية الشرق أوسطية، خاصة في مايتعلق بمنطقة الخليج العربي.
فعلى رغم أن أميركا ستبقى اللاعب الإقليمي الرئيس في الخليج، إلا أنها ستكون حريصة على ألا تتوسع مظلتها الأمنية ضد الخصوم الخارجيين الذين يهددون دول المنطقة لتصبح تورطاً غير مرغوب فيه في النزاعات الداخلية التي قد تنشب في هذه الدول.
البحرين نموذج أوّلي على هذا التطور. فعلى رغم أن واشنطن لم تقف علناً إلى جانب الانتفاضة الشعبية البحريينية، إلا أنها لم تقف أيضاً إلى جانب الحل الأمني- المخابراتي الذي تبنَّته الحكومتان البحرينية والسعودية، وواصلت المطالبة بحل سياسي للأزمة. وهذا موقف لم يكن متصوراً من جانب واشنطن.
هذه نقطة.
وثمة نقطة أخرى لاتقل أهمية. أميركا بعد أحداث 11 سبتمبر لم تعد أميركا ماقبلها. فقد انهارت عملياً (وإن ليس علنا) الصفقة التاريخية بين الإسلام السياسي السعودي وبين الولايات المتحدة التي أبرمها الرئيس روزفلت والملك عبد العزيز، مع انهيار برجي مركز التجاري العالمي، وحلّت مكانها رغبة أميركية في تشجيع ودعم إسلامي ليبرالي (على النمط التركي والإندونيسي) في كل أنحاء الشرق الأوسط، إضافة إلى رغبة أخرى في تحويل طاقة الجهاديين من الحروب ضد الغرب إلى حروب أهلية داخلية إسلامية.
وبالتالي، في حال برزت حركات إسلامية ليبرالية أو معتدلة في السعودية وباقي دول الخليج،(كما في دول الربيع العربي) وبدأت حملة شعبية للمطالبة يإصلاح النظام، لن تكون واشنطن في وارد معارضتها، إن لم نقل إنها قد تفكّر في دعمها على حساب تحالفاتها القديمة.
هنا، وفي هذه النقطة بالتحديد، نلمح التقاطع بين سياسة الاستدارة نحو آسيا- الباسيفيك التي تتضمن، كما ألمعنا، تقليص النفقات والالتزامات الأميركية في الشرق الأوسط، وبين الرغبة الاميركية في "إسلام سياسي جديد" يقوم هو بالتصدي للإرهاب الجهادي، وينجح في خلق الاستقرار السياسي والإديولوجي في هذه المنطقة الحساسة.
إنها، بكلمات أخرى، وكالة إقليمية جديدة في هذه المنطقة، شبيهة إلى حد بعيد بوكالات نيكسون الإقليمية السابقة. الإسلام السياسي هنا هو نفسه، لكن ألوانه وتفصيله اختلفت.
لكن في التفاصيل يكمن "الشيطان"، كما يقال!

السابق
إصابة نايف حواتمة بجروح طفيفة بوجهه ويديه في انفجار دمشق
التالي
الضاهر: قوى مسلحة تعمل على تشويه المسار الديمقراطي