فرزلة لبنان”: مَن يعزل الآخَر

من كان ليتخيّل في حزيران ، يوم خيضت الانتخابات على أساس المبارزة الشاملة بين ائتلافين، استقلاليّ تعدّدي، وممانعاتي يقوده "حزب الله", أنّ الأمور كانت لتنقلب بهذا الشكل الدراماتيكي، وعلى جناح السرعة، من خسارة الحركة الاستقلالية للأكثرية الفعلية في البرلمان "متأثرة بجراحها" المتراكمة منذ السابع من أيّار، وصولاً الى نشأة أكثرية مضادة للاستقلال الثاني، مصمّمة على إيقاع رقصة "القمصان السود" ذات صباح أسود، ومعزّزة بـ"الودائع البرلمانية الموقوتة"؟
ومن كان ليتخيّل بعد ذلك أن يؤخذ على محمل الجد، ثم يجري تسويقه من جماعة إلى أخرى، ثم يقرّ في جلسة اللجان النيابية المشتركة، مشروع القانون الانتخابي ذاك، الهزليّ، بل الذي يحاكي تركيبة "النكتة"، والذي يوزّع الهيئة الناخبة بين معازل عنصرية، في انتهاك فاضح لمنظومتي حقوق الإنسان والقانون الدستوري، وفي طعن بأبسط مقوّمات الميثاق وصريح نصوص الدستور؟
من كان ليصدّق أن الإرادة الوطنية للهيئة الانتخابية اللبنانية اقترعت بأكثريتها لبرنامج "العبور إلى الدولة" فكانت النتيجة قانوناً يسوّق لنفسه من زاوية "لكل طائفة أن تنتخب نوابها على حدة"، والأنكى أنه قانون تفرضه طوائف بعينها على طوائف أخرى. بل إنّ الحزب الخمينيّ الذي يلغي كل ديموقراطية انتخابية ممكنة ضمن الطائفة الشيعية، بسلاحه وتنظيمه الأمنيّ لأحوال المناطق التي يحكم قبضته عليها، وبالمحاصصة الثنائية مع "حركة أمل"، إنما يريدها انتخابات على أساس النسبية في الطوائف الأخرى؟
من كان ليتخيّل كل هذا التهاوي، وكل هذا الابتعاد عن المنطق الدستوري، وعن منطق المواجهة الدستورية لمشروع الهيمنة الفئوية للحزب الخميني المسلّح المتطرّف، بعد أن أصيب هذا الحزب بانتكاسته الانتخابية في حزيران ؟
لا بدّ من استرجاع ما كان قبل ثلاث سنوات، للتنبّه إلى مدى الصدمة التي يشعر بها كل كيانيّ لبنانيّ، وكل سياديّ لبنانيّ، وكل ديموقراطيّ لبنانيّ الآن.
وبعض هذه الصدمة راجع إلى أنّ السحر انقلب على الساحر داخل الحركة الاستقلالية: إعطاء الحصرية للاعتبار السياسي على كل من الاعتبارين القانوني والثقافي – الأخلاقي للمواجهة مع "حزب الله" كانت نتيجته تصدّعاً لبنيان هذه الحركة يوم لم تنجح في صدّ مشروع "الفرزلة" الذي يختصر زبدة "حلف الأقليات".
لكن تعميم المسؤولية هنا له حدوده. فبالأمس كان الذين وافقوا على العربدة بالدساتير والقوانين على باطل، والذين تصدّوا لذلك على حق، سواء قدّموا بديلاً لذلك أم لم يقدّموا، وأيّاً تكن دوافعهم والخلفيّات.
في الوقت نفسه، فإن المقاومة الدستورية التي ينبغي لها أن تعلن على أكثر من جبهة، في العمل البرلماني، وفي الشأن القانوني وربما القضائي، وعلى المستوى الإعلامي، وبين هيئات المجتمع المدنيّ، لا بدّ لها من بوصلة سياسية: استيعاب كل ما حصل منذ هزء السيد حسن نصر الله بنتائج الانتخابات الماضية فور إذاعتها، خلافاً لمقولته السابقة "من يربح يحكم" وصولاً الى اليوم. استيعاب أنّ الصراع في لبنان هو على أساس معادلة "من يعزل من؟". التطرّف الخمينيّ يتظاهر بكل سلاسة ممكنة مع المسيحيين للتمكّن من عزل الاعتدال السنّي. التخفّف الشائع بين الجميع، ولو بشكل متفاوت، من الاعتبارات الدستورية والميثاقية، أدّى الى أن يتمكّن "حزب الله"، بواسطة "مشروع الفرزلي"، من الاستفادة من مناخات المزايدة الداخلية بين المسيحيين، بدلاً من أن تكون هذه المناخات نقمة عليه وعلى سلاحه.
في المقابل، إن الهجمة التي يقودها هذا الحزب متترّساً بـ"مشروع الفرزلي"، هي من النوع الذي ينقلب فيه السحر على الساحر، إذا ما أحسنت المقاومة الدستورية المطلوبة أن توجد معادلتها وهي: بدلاً من تطرّف براغماتيّ في محاولات عزله للاعتدال، لا مناص من حركة تطويق "اعتدالية" للتطرّف، من موقع الانتصار للقانون الدستوري بعامة، ولصريح المتن الدستوري اللبناني بشكل محدّد. فبمعنى من المعاني هناك اليوم مرادفان: التداعي إلى المقاومة الدستورية، وإشهار شعار "عزل حزب الله". أمّا التمكّن السياسي فيتّصل بحسن المواءمة، العملية، غير السهلة، والمضنية، بين هذين المنطلقين.
إذا كان مشروع المعازل المذهبية الانتخابي هو لعزل الاعتدال، فإن الاعتدال لا يكون اعتدالاً إلا بتداعيه لعزل التطرّف، ممثلاً بشكله الأبرز: "حزب الله"، وتجنّب كل المعارك الثانوية قدر الإمكان. الحاجة الآن إلى التركيز.

السابق
الأصولية العلمانية لا تهزم الطائفيين
التالي
طموح عراقي الى شراكة عربية