يساريون “ممانعون”.. واصوليتَان

 يساريّونا التقليديون "الممانعون" لم تنطلق ألسنتهم حول الثورة السورية، قدر ما انطلقت يوم تبيّن المنحى "الإسلامي السياسي" الذي كرّسه "الإخوان المسلمون" في مصر، وأنذرت به الثورة السورية… حتى الآن. لم ينتبهوا، في خضم نشوتهم الفكرية هذه، بأنّهم، هم أنفسهم، من رعاة "حزب الله" و"حماس"، الأصوليّتين الإسلاميّتين "المقاومتين". تنظيم "حماس"، أعفاهم من مشقة التحليلات "المركّبة"، بعدما انسلخ عن المحور المعادي للـ "صهيونية وراعيته الامبريالية الأميركية"، وانضمّ إلى "الحليف الإخواني الإقليمي"، برعاية "قطر الإسرائيلية وتركيا العثمانية"، والذي "منح الشرعية الإسلامية لمعاهدة كامب ديفيد"… إلخ. فلم يبقَ في الميدان إلا "حزب الله" الذي لا تشوبه  أية أصوليّة، بالنسبة ليساريينا "الممانعين". الموضوع عندهم بسيط جداً: إن "حزب الله" هو "حركة تحرّر وطني"، عقيدته "إسرائيل شرّ مطلق…". وهو "عضو أصيل في "محور إقليمي دولي مضاد للإمبريالية والصهيونية". بذلك، يكون "حزب الله"، "شاء أم أبى"، "علمانياً واقعياً". ما ينفي عنه شبهة "الحزب الديني"، التي لا يستحسنها علمانيون مثل يساريّينا، لأنها تنسف عقيدتهم هم. فيذهب بعضهم أبعد من "حزب الله" نفسه، يمدّه بدليل "علمانيّته" الساطع، المتمثل بتحالفاته "المتنوعة"، المذهبية والطائفية. بعد "العلمانية"، التي يتمتع بها الحزب، "تشدّده المناقبي"، كما بدا أخيراً في "وفائه الاستراتيجي لدمشق العروبة"… ثم إن هذا الحليف الدمشقي، بدوره، "جمهورية علمانية"، أيضاً، ميزة مؤسِّسها، حافظ الأسد، انه "لم يوقّع…". أما صانعة الحزب ومرجعيته، إيران الإسلامية، فصمتٌ حول "علمانيتها"… كل هذا على قاعدة مبدأ معروف وقديم: الأولوية في الوجود، معنى الوجود، هو الصراع مع الصهيونية والامبريالية… والبقية تفاصيل "غير نبيلة".

المهم أن يساريينا "الممانعين" لا يريدون أن يخدشوا دماغهم من جديد، فيعيدوا تقييمهم للأصولية الشيعية، بعدما أتعبوا هذا الدماغ كثيراً في الهجوم على الأصولية السنيّة. "حزب الله"، اسمه أولاً، ثم مرجعيته وقيادته وتعاليمه وهويته وزعامته؛ فضلاً  عن مجتمعه … كلّها تنضح بأصولية إسلامية سياسية. أصولية لم "تمكّن" الحزب من السيطرة على المجتمع اللبناني بأسره. لكنها ضمّت إلى صفوفها ومناخها الغالبية العظمى لطائفة بعينها، وحكَمها بمبدأ مزج الدين بالدنيا. حزب الله شذّبه المجتمع اللبناني بقوة تنوّعه، وترسبات حداثته الماضية، ولن تتوسّع "إسلاميته" أبعد من حدود طائفته. ولكنه يبقى حزباً دينياً أصولياً بالمعنى الدقيق. ولا يختلف عن الإسلامية السياسية الصاعدة إلا ببضعة ملامح تعود معظمها إلى قِدَمه: فوق أن عمره ثلاثة عقود، لديه مرجعية تديره، ومؤسسات وشبكة علاقات وعلاقات عامة؛ ومصوَّب الأهداف، مؤطر مقنّن، ومنظم الخطوات. أما الإسلامية السياسية السنيّة، الإخوانية والسلفية والجهادية، فهي على درجات من التخّبط والسمعة السيئة وتراوح المرجعيات والعشوائية التنظيمية، فضلاً عن توزّعها بين أجنحة وتيارات لا يضبطها أمير ولا خليفة ولا سلطان، ولا بطبيعة الحال ولي فقيه. بعضها باشر بتنفيذ الشريعة الإسلامية، والآخر "يتريث"، أو يتكتك، أو يريد أن يربّي المجتمع على المطالبة بها… 

الجريمة الأخيرة التي ارتكبها، على الأرجح، واحد من أبناء التيارات الإسلامية التونسية ضد الشخصية اليسارية شكري بلعيد، ضخّت حبراً في أقلام يساريينا "الممانعين"، أنعشت مخيلتهم، ومدّتهم بجرعة صراع ضد التيار الديني السني… لو تذكروا قليلاً، لانتبهوا إلى زيف أشواقهم: فالذين اغتيلوا عام 1987 من الشيوعيين اللبنانيين اللامعين، حسين مروة أو مهدي عامل، وغيرهم… كانوا ضحايا من؟ من هي القوة وقتها التي كانت تطهّر "محيطها" من منافسيها المحتملين، تمهيداً لل "التمكين"؟

سؤال آخر: ماذا لو تطور موقف الإسلام السياسي السنّي بحيث صار، هو أيضاً، معادياً لأميركا وإسرائيل؟ هل يصبح بدوره "علمانياً"؟ سواء "شاء أم أبى"؟

 

السابق
الهيئات الزراعية بحثت في موضوع تسديد ثمن زيت الزيتون
التالي
القاضي ابوغيدا يطلب في قراره الاتهامي الاعدام لميشال سماحة وعلي المملوك والعقيد عدنان