الفلسطيني نزيه البقاعي من مرج الزهور الى غزة مسيرة 21عاما (1)

الرواي: نزيه البقاعي، فلسطيني من سكان سعدنايل في البقاع اللبناني
الرواية: حقيقية 100%
الزمان: من 1992 الى 2013

بعد احدى وعشرين عاما من معرفتي بالإخوة المبعدين على يد اسرائيل 1992 الى مرج الزهور في جنوب لبنان، كان اللقاء هنا على أرض العزة غزة. وقبيل وصولي كان يختلجني سؤال/ شعور هل يتذكرون تلك المرحلة بعد حوالي ربع قرن من الزمن؟ لا بد من ان تكون بعض البصمات راسخة في ذاكراتهم. فكانت المفاجأة حين وصلت، الجميع يتهافت للسلام والتحية ويتذكرون أدق التفاصيل التي عاشوها في مرج الزهور حتى وصلت الامور الى درجة المبالغة حسب اعتقادي بما وصفوه. لماذا؟ لانني قد اكون قد وصلت باللحظة المناسبة الى تلك المنطقة التي حلوا فيها ضيوفا على لبنان. واعتقد بأنها الاولى في حياتي التي اسافر فيها خارج لبنان ولا يكون لديّ رغبة او اي شعور بحرارة العودة.
فالمكوث في فلسطين له طعم اخر ومعنى اخر وله رائحة اخرى. كيف لا وقد فاضت قريحتي بالحديث وكانت المرة الاولى في حياتي التي اتحدث فيها خطيبا، فنائب المجلس التشريعي احمد بحر قال لي: أبكيتني يا أخ نزيه.
وكنت قد كتبت كلمة صغيرة مقتضبة من باب الاحتياط حتى اذا دعيت لأتكلم في حضرة رئيس الوزراء او المستقبلين ألقيها، فكتبت بعض الكلمات على عجالة وعندما دعوني للحديث رميت الورقة وخرجت عن النص كليّا ولا اعلم بما تحدثت.

الوفاء الذي لم أره من ابناء فلسطين الذين هم اكرم منا جميعا بدمائهم السخيّة، بصمودهم، بصبرهم، جعلني اشعر بخجل لم اشعر به في حياتي صدقا، حيث لم استطع تلبية جميع الدعوات التي تلقيتها.. وعذرا يا اهل فلسطين، فقط بسبب ضيق الوقت. ربما رأيتكم جميعا لانكم مزروعون في قلبي واشتممت رائحتكم من رائحة تراب فلسطين الذي سرنا عليه.
نعم غزة انت المثل والمثال في الكرامة والعزة والإباء والوفاء.
فمنذ 21 عاما يوم وصل الإخوة المبعدون الى مرج الزهور في لبنان كنت اشاهد التلفزيون والاخبار والملاحق الاخبارية تتوالى فلم استطع النوم في تلك الليلة.
من هم هؤلاء الرجال؟ لا أعرف أحدا من غزة، لم اسمع قبلا باسمائهم وليس لديّ اية فكرة عن حركتي حماس والجهاد الا انه الشوق للوطن ومحبتي لارض فلسطين، التي احببناها يوم شربنا الحليب من صدور امهاتنا وعشقناها لانها البوصلة والهدف الذي لا نستطيع ان نحيد عنه.

قمت في الصباح الباكر وعملت بشكل سريع على تأمين بعض المواد الغذائية وعندما حاولت ارسالها منعت من قبل قافلة كانت تود الدخول الى مرج الزهور من سيارات تابعة للانروا في البقاع الا ان اصراري، وفي تلك اللحظة، جعلني ارسل شقيقي الصغير جهاد مع القافلة، وقد اخترقها ودخلت بين السيارات، وحاول الجيش منعها الا ان السائق الذي يرافق شقيقي اصر على اقتحام الحاجز. وصل الجميع الى مرج الزهور وكان التعب والجوع والعطش يُثقل همم المبعدين وكأنها هدية من السماء وصلتهم.

فسألوا عمن ارسل هذه الشاحنة فقال لهم اخي انها هدية من نزيه البقاعي، وكان احد الاخوة قد قدم بعض حمولتها هدية عندما علم اني سارسل شاحنة، فقام المبعدون بحمل شقيقي جهاد ورقصوا به تحية مع التكبير بأعلى الاصوات. وكان الدكتور عزيز دويك يقوم بعقد مؤتمر صحفي بثته قناتي الـ(بي بي سي) والـ(سي ان ان)، فارسل رسالة شكر على الهواء مباشرة لي، وسمع الكثيرون في انحاء العالم بالخبر فلم انم ليلتها من الاتصالات الدولية التي جاءت تنهال عليّ من كل حدب وصوب. الجميع يشكرني ويبدي المساعدة والاستعداد لارسال ما يريد للمبعدين. وكان أذيع الخبر في المحطات المحلية فبدأ الكثيرون الاتصال حتى ان بعض الاخوة انتابه شعور الاستياء مني شخصيا لانني لم استطع استلام اية مساعدة منه للمبعدين بسبب الضغط الذي عانيته من الناس.
وهذه الحالة اعتقد انها وحسب معرفتي تحصل لأول مرة بهذا الشكل.

نزلت بعد خمسة ايام الى المخيم من بلدة لبايا البلدة المجاورة والتي تبعد 8 كلم عن المخيم سيرا على الاقدام برفقة مجموعة من شباب البلدة ليوصلوني الى المخيم. وكان سبب الزيارة رسالة وصلتني من الدكتور الرنتيسي طلب فيها مقابلتي وكنت في حيرة من امري هل سنعيد تجربة من سبقوا من الإخوة المبعدين؟ وهنا أعترف امام الله وامام الناس بان التجارب السابقة كانت غير مشجعة.
بدأت اسمع دندنات غير مفهومة وانا في مسيري نحو المخيم فقلت ماذا يجري على بعد حوالي كيلومتر من المخيم. وعندما اقتربت اكثر علمت بأنها اناشيد وهتافات لبعض الاخوة الذين ذهبوا للاستحمام والوضوء على (العين).

وكان معهم شيخا جليلا ومجموعة من الملتحين منهم من يستحم ومنهم من يصلي ومنهم من ينشد. صافحت الإخوة والشيخ الجليل، وبعد المصافحة طلب مني اني اعرّف عن نفسي فقلت لهم انا فلسطيني من لبنان اسمي نزيه البقاعي فصرخ بوجهي مكبرا وعانقني، وبدأ الاخوة واحدا تلو الاخر يصافحني ويحدثني عن تلك اللحظة التي وصلت فيها الاغذية وكم عانوا من حال الجوع والالم من الجوع والخوف والاهم من الجوع هو الخوف هل ان الناس في المنطقة سيتخلون عنهم وسيتركونهم للقدر ام سيلتفون حولهم ويؤازرونهم ويخففوا عنهم؟
فتلك اللحظة لا تنسى، وانت يا نزيه اعتقد ان الدكتور الرنتيسي، قد ارسل بطلبك فقلت صحيح فقال لي سيرافقك احد الاخوة ليوصلك الى الدكتور الرنتيسي في المخيم. سرت برفقة ذلك الشخص وكان في تلك اللحظة يحمل وعائين من الماء للشرب في المخيم. كل وعاء سعته 30 ليترا اي ستون ليترا ما يوازي خمس وثمانون او تسعون كيلو غرام. رفض ذلك الشخص ان اساعده في حمل الاوعية متذرعا بأني آت من منطقة بعيدة واعاني من عناء السفر.

كان يحادثني طول الطريق وكانت المسافة تبعد حوالي كيلو متر عن المخيم.
وعلى طول الطريق يضحك ويحادثني بأنه سوف يندم رابين على فعلته هذه وسيزلزل الارض تحت اقدام الصهاينة حتى من هنا من مرج الزهور من هذه البقعة النائية ويضحك ويقول انشاء الله سيكون مخيما ترفيهيا، وسيجعلنا نقوم باعادة تقييم للمراحل السابقة واعداد للمراحل اللاحقة. حتما بمشيئة الله عائدون الى وطننا مرفوعي الرأس والتحرير آت لامحالة".
وصلنا، سلمنّا وعانقنا الإخوة وكانوا جميعا بانتظاري وكأنهم يعرفونني ومنذ عقود. رأيت اشكالا جديدة في ذلك، منطق تعاطي جديد، احترام لم اكن اعهده من قبل، خصوصا في تجاربنا النضالية السابقة، فالنظافة والتواضع والاحترام اسياد موقف في المخيم".
وبدأت رحلة العشق بين الرجال والشوق الدائم الذي جعلني اعتبر هذا المخيم هو دويلتي الصغيرة التي ستوصلني الى وطني الكبير.

يتبع جزء ثان

السابق
رئيس الهيئة الإيرانية حسام نويس لجنوبية: تكليفنا مقدّس وهدفنا إلهي
التالي
وليد جنبلاط إلى السعودية خلال أيام