معركة الجميع ضدّ التكفيريّين

  يخوض التكفيريّون اليوم معركة ضدّ الجميع، ويتصدّى الجميع لهم كقوى حيّة في المجتمع، مدنية علمانيّة متنوّرة، أو حتى دينيّة مؤمنة متسامحة لا تتّخذ الدين أو المعتقد أو الشريعة ذريعة للتعصّب والانغلاق والفرض والمنع والقمع وإشاعة جوّ من الخوف والرعب والظلامية. ويبدو أنّ المعركة (أو الحرب) من ألفها إلى يائها، من بلاد النيل إلى الهلال الخصيب فدول المغرب العربيّ وأفريقيا، هي ضدّ فئة واحدة حصرية، وإن بتسميات ووجوه وأقنعة مختلفة، اسمها القوى التكفيرية، السلفية، الوهّابية، «الإخوانية»، الأصولية، الجهادية، «القاعدية» (عن «القاعدة»)، التي تخال أنّ الزمن زمنها والميدان ميدانها، وأنّها تغتنم راهناً الفرصة التاريخية لتسلّم زمام الحكم والسلطة في البلدان التي شهدت «ثورات» أو «انتفاضات» ضمن ما سمّي بـ«الربيع العربي» الذي تبدّى مع التطوّرات الميدانية أنه «ربيع تكفيريّ» بامتياز وفرصة يقتنصها هؤلاء الظلاميّون الذين يطلّون من مجاهل ما قبل التاريخ حاملين تعصّبهم الأعمى وحقدهم العارم واندفاعهم الأرعن، رافعين شعار الإسلام وشريعته، فيما الإسلام الحقّ والشريعة السمحاء منهم براء.
نبدأ من مصر حيث تؤكّد المجريات والتطوّرات منذ وصول «الإخوان» إلى الحكم أنّ نظريتنا هي الصحيحة منذ البداية وليست نظرية القائلين أعطوا «الإخوان» فرصة قبل الحكم عليهم واختبروهم وانتظروا ما سيفعلون، فإذا بهم يفعلون منذ اليوم الأول ما لا يُفعل، من احتكار تامّ للسلطة والصلاحيات عبر دستور متخلّف وضع على مقاس مصالحهم وأهدافهم، إلى تغليب أفكار التعصّب والتزمّت في الفكر والأدب والفنّ والإعلام (معارك طويلة خيضت حتى اليوم بين أهل الفكر والثقافة والفنون على أنواعها من سينما ومسرح وتلفزيون وتشكيل، وأبرزها ما تعرّض له عادل إمام وإلهام شاهين ويسرا وكثر آخرون من اتهامات بالتجديف على الدين والإسلام أو «الزنا»! ومخالفة المواضعات الأخلاقية بحسب ما يرفعها المتزمّتون قانوناً دينياً واجتماعياً!)، بلوغاً إلى التحرّش العلني بالنساء في التظاهرات والانتفاضات المشتعلة اليوم في أنحاء مصر لمنعهنّ من النزول إلى الشارع ومشاركة الرجال في تظاهرات الاحتجاج! أي أنّ خديعة «الإخوان» انكشفت وبانت نواياهم الحقيقية من نزوع إلى تثبيت حكم «الشريعة» بحسب الفهم التكفيريّ الظلاميّ لها، وردّ مصر الانفتاح والتنوّع والعيش الإسلامي ـ القبطي المشترك والسياحة العالمية والفنون المتقدّمة والنشر الحرّ، مئات السنين إلى الوراء، أي إلى عصور التزمّت والتشدّد والتخلّف والظلامية والانغلاق وتطبيق «الذمّية» على غير المسلم وسلبه حقوقه السياسية والمدنية والدينية وإشاعة جوّ الانقسام والافتراق في المجتمع المتعدّد دينياً وثقافياً، كي يهنأ بال «الإخوان» وأنصارهم السلفيين، بعد طول انتظار واشتهاء للحكم والسلطة امتدّ عقوداً طويلة. غير أن حيويّة المجتمع المصريّ وتعدّده السياسيّ والفكريّ لن يدع الأمر سهلاً ومستتبّاً لـ«أسياد» مصر الجدد الذين تفرعنوا واستكبروا وصدّقوا أنفسهم وقدرتهم على تثبيت سلطتهم المستبدّة، غير مستقين العبرة ممن سبقهم في الحكم الاستبداديّ الذي هوى في الختام مثل بناء كرتونيّ هشّ أسقطته صرخات الشعب الغاضب وقبضاته المرتفعة.
في تونس، لا تختلف الصورة كثيراً عنها في مصر، فهنا «إخوان» وهناك «إخوان»، وفي سورية «إخوان»، وأينما كانوا هم أهل تكفير وظلامية بتسميات مختلفة («نهضة» مثلاً في تونس لم تشمّ رائحة النهضة!). الحزب التكفيري السلفيّ المظلم الرأس والقلب يحكم تونس بالقوة ويغتال معارضيه وينكّل بمواطنيه على نحو خجل المخلوع بن علي من الإقدام على مثله، علماً أن وعود هذه القوى «الإسلامية» (ليست من الإسلام في شيء) تشبه وعود قرينتها في مصر بالتنمية والإصلاح والحرية، إلى آخر الشعارات المنافقة التي توسّلها التكفيريون الظلاميون لبلوغ السلطة فحسب، وبعد ذلك لا وعد يتحقق ولا من يحزنون، فالاقتصاد إلى الوراء، والبطالة إلى ازدياد، والقطاعات كلّها مشلولة، خاصة السياحة في بلدان سياحية بامتياز مثل تونس ومصر، والفساد في السلطة لم يتزحزح قيد أنملة… أيّ أن ما تغيّر في تونس هو مراكمة سوء حال فوق سوء حال، وقمع فوق قمع، وبؤس اجتماعي فوق بؤس، حتى يصحّ الترحّم على نظام بن علي الفاسد، إنما الأقل فساداً وقمعاً واغتيالاً من حكم التكفيريين، كما يصحّ الترحّم على نظام حسني مبارك رغم كل سيئاته وخطاياه التي لا تغتفر.
نصل إلى سورية وهنا المشهد «الأبوكاليبتي» الأفظع، فالحثالة التكفيرية جُنّدت كلها للمشاركة في تقويض أركان الدولة السورية الصلبة ومكوّناتها الثابتة من شعب وجيش وقيادة، وأُدخل المقاتلون الظلاميون المجرمون من كل جنسية ولون إلى هذا البلد المقاوم والممانع، آخر القلاع الصامدة في وجه «الأسرلة» و«الأمركة» للأمة السورية جمعاء، فنحروا جسدها وأدموه بسيوف التخلّف والحقد والعصبية العمياء والجهل المرعب. دمّروا وقتلوا واغتالوا وفجّروا وشوّهوا وصفّوا بشراً من مذاهب أو أديان مختلفة وأطلقوا الوحوش الكامنة فيهم، فعاثوا في الأرض قتلاً وموتاً وإرهاباً، وأرغموا القيادة السورية المدعومة من الشعب والجيش على البطش بهم في قسوة أينما حلّوا لإفشال مؤامرة مجنّديهم ومرسليهم إلى المحرقة، لأنّ مؤامرة تكفيرية نتنة مجرمة كهذه لا تمرّ بسهولة في وطن صامد، محصّن، مدعوم من حلفاء إقليميين ودوليين يشكّلون معه آخر محور صمود في منطقتنا والعالم ضدّ الزحف الإفعوانيّ الصهيو ـ أميركيّ للهيمنة (بلوغاً إلى ساحة الكرملين وقلب طهران). لذا بدأ المشروع التفكيريّ الشامل يندحر ويتراجع من أرض الشام التي ضربته بيد من حديد وبقلب من فولاذ، فتحطّم عند أبواب القلعة السورية المنيعة، وسوف ترتدّ هزيمته إلى عرينها، إلى قلب السعودية وقطر ودول العربان المتآمرين، وإلى عقر الدار العثمانية الجديدة حيث يجلس السلطان الموهوم أردوغان منتظراً النصر الآتي على أيدي الجحافل التي أدخلها عبر حدوده لتدمير سورية فقُتل عناصرها كالجرذان… وهم ليسوا بأكثر من ذلك.
مسلمو اعتدال وتسامح، مسيحيون، موحّدون، علمانيون… الجميع، من كل دين وعقيدة وفكر وانتماء، ضد المشروع التكفيريّ الزاحف إلى ديارنا كالأفعى السامة بوجوه وملامح وشعارات من أزمنة ما قبل التاريخ. لكنّ النور منتصرٌ في النهاية على الظلام والظلاميين.

السابق
الاخبار: السنيورة: لن نقبل باستمرار الانحدار
التالي
قائمقام صور يهنّئ نجيب يوسف بسلامته