قبـل أن يسقـط حكـم الإخـوان

السلطة آكلة الأحزاب وحكم الحزب الواحد أمر متعذر. تجربة الأحزاب العربية في عدن ودمشق وبغداد حافلة بوقائع التنقل المتكرر بين مقاعد السلطة وعنابر المعتقلات وزنازين السجون وإعدامات واغتيالات "الرفاق"… اليوم، تونس تعلن سقوط حكم "الاخوان" ومصر تمنعهم من التمكين.

ثبت بالوجه الشرعي أن حكم الحزب الواحد أمر متعذر، بل لعله مستحيل، في أي من أقطار الوطن العربي، وبغض النظر عن تاريخ هذا الحزب وشعاراته السياسية وتراثه النضالي.
فالسلطة آكلة الأحزاب.. ثم ان التجربة الحزبية في المجتمعات العربية كانت في الغالب الأعم مأساوية، تستوي في ذلك الأحزاب العلمانية مع الأحزاب والتنظيمات الإسلامية، أصولية كانت أم إخوانية.
من اليمن إلى المغرب، مروراً بالمحطتين البارزتين دمشق وبغداد، وصولاً إلى تونس ومصر، تتبدى تجارب الأحزاب مع السلطة مأساوية في انعكاساتها على أحوال البلاد في حاضرها ومستقبلها.
ليس هذا الاستنتاج حكماً ظالماً أو متعنتاً على تجربة الأحزاب العربية مع السلطة في الدول التي حكمت فيها بشعارها صريحاً وبكادراتها التي تسنمت المواقع القيادية فيها وهي مثقلة بالمرارات بل الأحقاد على «أجهزة حكم الطغيان» الذي خلعته فورثت «دولته».. بل إن الواقع المأساوي يشهد أن حكم الأحزاب، وبغض النظر عن شعاراتها كاد يذهب بالدول التي حكمتها.
فالأحزاب قبل السلطة هي غيرها في السلطة وبعدها..
ثم إن تجارب الغالبية الساحقة من «الأحزاب الحاكمة» تكشف أن الوصول إلى سدة السلطة قد استدعى عادة، سلسلة من المناورات بل المؤامرات على الشركاء المفترضين في الإعداد لقلب نظام الحكم، من اجل التفرد بالقرار بعد النجاح في «إسقاط حكم الطغيان».
وفي العواصم التي سبقت الأحزاب إلى تسنم سدة السلطة فيها، وبالتحديد دمشق وبغداد فضلاً عن عدن في تجربة جمهورية جنوب اليمن، ما يشهد على الكلفة الثقيلة التي تكبدتها البلاد بمؤسساتها المدنية والعسكرية، في الصراع بين الحلفاء والشركاء، قبل أن يحسم بتفرد الأقدر على المناورة والأسرع في السيطرة على مواقع القرار.
لم تشهد تلك العواصم حكماً جبهوياً فعليا، وإنما كانت «الجبهات» التي غالباً ما يموه بها الحزب الأقوى أو الأوسع شعبية نواياه وسعيه إلى احتكار السلطة، مجرد واجهات سرعان ما تنتفي الحاجة إليها، فتسحب من التداول، ليطل «القائد البطل» بشعاره الحزبي الصريح الذي يغطي طموحه وتطلعه إلى الانفراد بالسلطة بالإتكاء على العسكر، وان غمر الأفق برايات الحزب وشعاراته وأصداء هتافات مناصريه الذين يرونه مؤهلاً لأن يكون الحزب والدولة والشعب جميعاً.
في دمشق وبغداد أصحاب تجارب عريضة في هذا المجال، وهي تحفل بوقائع التنقل المتكرر بين مقاعد السلطة وعنابر المعتقلات وزنازين السجون، من دون أن ننسى المحاكمات الميدانية والإعدامات فضلاً عن الاغتيالات المتكررة «للشركاء» أو «للرفاق» الذين قد يشتبه في ولائهم «للقائد» الذي سيغدو «السيد الرئيس» فيطردهم من نعيم السلطة وغالباً بذريعة «تأمين الحكم الوطني وتحصينه في وجه المؤامرات الخارجية وعملاء الداخل».
أما في عدن فكانت التجربة أثقل كلفة دموية وأفدح في خسائرها الاقتصادية والاجتماعية إذ أدت مجازر الصراع على السلطة إلى سقوط «الدولة» جميعاً، وعودة جنوب اليمن إلى أحضان الحكم العسكري في الشمال مكرهاً، وعبر أكثر من حرب خربت حياة اليمن بشعبه و«دولتيه» جميعاً… وها هي بلاد «الحكمة يمانية» تقف على باب المجتمع الدولي بشفاعة مجلس التعاون الخليجي تستعطيه ما يقيم أود الدولة الموحدة، حتى لا تندثر في غياهب مسلسل من الحروب الأهلية التي تهدد أمن الأمة بأسرها.
هذه لمحة عن تجارب «اليسار» وأحزابه، البعث وحركة القوميين العرب قبل أن تتمركس، ثم بعد إيغالها في الماركسية إلى حد الخروج من هويتها الأصلية..
نحن الآن أمام تجربة «اليمين في السلطة» ممثلاً بـ«الإخوان المسلمين» وسائر التنظيمات التي تتخذ من الإسلام السياسي شعاراً (السلفيين والمنشقين عن الإخوان والهيئات التي كانت اقرب إلى الجمعيات وتقترب الآن من التحول إلى أحزاب وقوى سياسية)…
وفي نظرة سريعة الى الوقائع التي تشهدها السلطة في كل من تونس ومصر هذه الأيام، تتبدى الأزمة حادة، والحكم يواجه مآزق بنيوية خطيرة، بمعزل عن حركة الشارع وحالة التشتت التي تعيشها «المعارضة» بتنظيماتها المستحدثة أو تلك التي جدّدت شبابها لمواجهة حكم «الإخوان».
لقد كشف حدث الاغتيال السياسي الذي استهدف القيادي المعارض «شكري بلعيد» عمق الأزمة التي يعيشها الحكم الائتلافي أو الجبهوي في تونس، وان كان القرار فيه لـ«لإخوان».
في البدء، تمايزت إلى حد التضارب مواقف القياديين الإخوانيين: فبادر رئيس الحكومة حمادي الجبالي إلى الإعلان عن ضرورة استقالة الحكومة وتشكيل حكومة جديدة من خارج النادي السياسي (تكنوقراط) لإنجاز المهمات التي تتطلبها المرحلة الانتقالية والتمهيد لقيام حكم دستوري عبر انتخابات نيابية لا مجال للطعن في نزاهتها.
ولقد فاجأ هذا الطرح قيادة «الإخوان»، فسارع «الزعيم التاريخي» لـ«النهضة» راشد الغنوشي إلى الرد برفضه علانية، مطالباً الحكومة بان تتولى مسؤوليتها في التحقيق، ومشدداً على استمرار الحكومة القائمة والمجلس التأسيسي حتى إصدار الدستور وإجراء الانتخابات.
ثم كان الرد على تظاهرة تشييع القائد النقابي ضحية الاغتيال، بتظاهرة تأييد لحزب «النهضة» تطالب ببقاء المجلس التأسيسي.
انتقلت المواجهة إلى الشارع، خصوصاً وان «الاتحاد العمالي العام» في تونس، وهي مؤسسة ذات تاريخ نضالي، وكان عهد بن علي قد حاول مصادرتها، ثم اجتهد حزب النهضة في تهميشها، قد دعا إلى إضراب مفتوح، مؤكداً انه ما زال حاضراً وصاحب دور.
الأزمة، إذن، في كل مكان: في «النهضة» التي تصر قيادتها على الحفاظ على موقعها الممتاز في السلطة، وفي أحزاب الائتلاف الحكومي، ما يوحي بانفراط العقد، وفي الشارع، حيث تتبدى المعارضة قوية بحيث لا يمكن تجاهلها ولكنها في الوقت نفسه اضعف من أن تستطيع تولي السلطة.
غير أن الحقيقة الثابتة أن تونس قد أعلنت سقوط حكم «الإخوان».. دون أن يعني ذلك تجاهل قوة «الإخوان» في الشارع، وقدراتهم المادية، وشبكة علاقاتهم الخارجية. إنهم قوة، ولكنهم ليسوا شعب تونس، بل ولا يمثلون أكثريته الساحقة، وبالتالي فلا حق لهم بحكم البلاد منفردين.
أما في مصر فان الحكم الإخواني، القوي بقدراته المادية وتنظيمه العريق والممتد في أنحاء البلاد كافة، كما بعلاقاته الدولية، يمارس السلطة بفائض من القوة تجعله يتجاهل مطالب المعارضة، مستغلاً ضعف تشكيلاتها الحزبية، وبمعزل عن طوفان الجماهير الغاضبة، والتي تفتقر إلى قيادة موحدة كما إلى برنامج موحد. فان الحكم الإخواني يواصل اللعب على التناقضات بين أطرافها… لكن ذلك كله لا يحل الأزمة الوطنية الحادة التي تتهدد مناعة الدولة في مصر ووحدة شعبها، وتنهك اقتصادها وتسمم العلاقات داخل المجتمع.
واضح أن «الإخوان» في مصر يراهنون على الانتخابات النيابية المقررة خلال شهرين. وهم يفترضون أنها ستوفر لهم الأكثرية المطلقة في المجلس النيابي، إضافة إلى أكثريتهم في مجلس الشورى، بحيث يمسكون بمفاصل الحكم بسلطاته التنفيذية والتشريعية والقضائية بعد الدرس القاسي للقضاء مع مسألة النائب العام، ومن ثم الأمنية ممثلة بوزارة الداخلية وأجهزتها.
لكن أوضاع مصر، من الشارع إلى الاقتصاد إلى الانقسامات الخطيرة التي تتهدد المجتمع، لا تحتمل الانتظار.
إن المجتمع مهدد في وحدته التي أكدها «الميدان»، خصوصاً في الشهور القليلة الماضية التي حفلت بالتظاهرات والوقفات الاعتراضية.
وحتى لو انقسم «الميدان» تيارات وتوجهات تتفق ضد «الإخوان» وتختلف على صيغة الحكم في المرحلة الانتقالية، فان ذلك ليس بوليصة تأمين لحكم «الإخوان».
فإذا ما تذكرنا الصعوبات الحادة التي تواجهها مصر اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً تأكدت الحاجة إلى حكم جبهوي يجمع أعلى كفاءات الشعب من أصحاب التجربة العريضة والخبرات، وممن لهم حضور وازن في المجتمع، للسير بالبلاد نحو غدها، متخطية المآزق والأفخاخ الكثيرة التي نصبت لها لإخضاعها واسترهان إرادتها، سواء على المستوى الدولي، أو الإقليمي (حتى لا ننسى إسرائيل) فضلاً عن الضغوط التي مارسها ويمارسها أصحاب الثروة من أهل النفط العربي.
إن «الإخوان» في الرئاسة، وهذا تشريف عظيم. لكنهم، حتى هذه اللحظة، لم يثبتوا جدارتهم بها، بينما نراهم قد اندفعوا الى استبعاد الآخرين ومحاولة احتكار السلطة، لان المعارضات منقسمة على ذاتها بما يضيع قدرة الأكثرية الشعبية على الفعل.
ان «الإخوان» في تونس، كما في مصر، أمام امتحان خطير يمكن وصفه بـ«التاريخي»، فإما أن يتصرفوا بالحكمة التي تؤكد حرصهم على بلادهم ووحدة شعبها، وإما أن يصروا على احتكار السلطة فيفشلون وتنتكس الثورة ويتهدد مستقبل البلاد بالضياع.
وها هي أنظمة الحزب الواحد التي ادعت حصرية تمثيل الشعوب قد سقطت تباعاً مخلفة وراءها بلاداً خربة ومجتمعات منقسمة على ذاتها، ضعيفة أمام عدوها بل وأمام الخارج إجمالاً، ما يضيع الحاضر من دون أن يحمي المستقبل.

السابق
إصلاح المستقبل العربي؟!
التالي
قلوب مليانة..!