البطريرك القوي.. في قلب النظام الضعيف

ربما لأنها الزيارة الأولى لبطريرك الموارنة الى سورية منذ استقلال لبنان في العام 1943، لذا احدثت زيارة مار بشارة بطرس الراعي الى دمشق بعض الجدل وردود الفعل الرافضة لها من قبل ناشطين معارضين لبنانيين وسوريين. بالطبع لا يكفي انها تأتي بعد نحو 70 عاما لتثير هذا اللغط السياسي، بحجة المشاركة في حفل تنصيب يوحنا العاشر اليازجي بطريركا لانطاكية وسائر المشرق للروم الارثوذكس. فسورية تعيش حالة انقسام، أو ثورة على نظام طالما شكلت الكنيسة المارونية مصدر ازعاج له في محاولته الدؤوبة للقبض على لبنان والاستحواذ به، بشتى الوسائل المشروعة وغير المشروعة. اذ كانت العقود الثلاثة الماضية شاهدةً على دور الكنيسة المارونية في اطلاق واحتضان المواقف والحركات السياسية التي عبرت عن رفضها وصاية نظام الاسد من الاب الى الابن، خصوصا بعد اتفاق الطائف، وبرزت بشكل حاسم بعد العام 1992.
ولم يكن تمنّع البطاركة، طيلة هذه السنوات، عن القيام بزيارة الى ابناء الكنيسة في سورية الا تعبيرًا عن تثبيت تمايز لبناني وترسيخه في وجه الدعوات الى اعادة ضم لبنان الى سورية. وهي دعوات طالما كانت تشكل في العقود الماضية ديدن العديد من الحركات السياسية القومية، مستبطنة في الخطاب الرسمي السوري، ولم يقوضها سلوكه السياسي الذي أبى ان يتجاوب مع كل ما يثبت حقيقة استقلال لبنان وسيادته. والمثال النظري على ذلك ترسيم الحدود مع لبنان والتمثيل الدبلوماسي بين البلدين. والاخير فرضه اللبنانيون بعد العام 2005، بعدما استطاعوا تحقيق انسحاب الجيش السوري من لبنان. امران لا يمكن الا احالتهما في الدرجة الاولى الى نضال دؤوب قادته الكنيسة المارونية طيلة عقود، وتوجته دماء الرئيس رفيق الحريري.
زيارة البطريرك الراعي الى سورية اليوم تختلف تماما عن زيارة كان يمكن أن يقوم بها قبل عامين. فسورية اليوم ليست تلك التي كانت قبل الازمة. والراعي يدخل الى دمشق ممثلا للكنيسة المارونية التي تمتلك ارثا مهما في مقارعة سلوك النظام واطماعه اللبنانية. ولطالما كانت الباب الذي يلجأ اليه اهالي المفقودين والمعتقلين اللبنانيين في اقبية النظام ولا يزال جزءٌ كبيرٌ منهم معتقلاً او مفقوداً.
فلو تمت الزيارة قبل عامين، او في زمن الوصاية السورية على لبنان، كان ازال النظام آخر معاقل الممانعة اللبنانية له، ولكانت اضفت شرعية طالما حاول هذا النظام ترسيخها في الوعي اللبناني والعربي، وهي أنّ تحكمه بلبنان هو قدر سياسي وتاريخي وحقيقة لبنانية ولكان أطفأ آخر شعلة لمطلب استعادة السيادة اللبنانية، خصوصا ان النظام السوري كان حريصا طيلة مرحلة الوصاية على ان يثبت مشهد تقاطر السياسيين والمرجعيات الروحية اللبنانية الى بابه، العالي في الشكل والمنخفض عمليا. وعلى ان يرسّخ التعبير غير المباشر عن الضيق الذي يعانيه منهم ومن قضاياهم التي يحملونها اليه.
تخيلوا لو كان بطريرك الموارنة في عداد هؤلاء: ماذا كان حلّ بلبنان؟
بهذا المعنى الكنيسة المارونية لا تغامر بهذا الرصيد النضالي وزيارة البطريرك الراعي لا يمكن ان تكسر جرة الكنيسة وتقوض زبدة السيادة التي اختزنتها طيلة السنوات الماضية. فلا النظام قادر، مهما بلغت بهلوانيته، ان يكسر هذه الجرّة، ولا ان يستلذّ بما تختزن لا بل قدرته على استثمارها سياسيا محدودة.
وفي الموكب الرئاسي الذي واكب الراعي، من المعبر الحدودي الوحيد الآمن في المصنع في اتجاه دمشق، لاحظ البطريرك ان المعبر كان فارغا بلا حركة ولا تنقل. هو الوحيد الآمن للنظام نسبيا وليس هو سبب هذا الأمان كما بات يعرف القاصي والداني.
البطريرك في زيارته اقوى مما لو كان زار دمشق قبل عامين. وهو قال كلاما في قلب دمشق وفي معقل "النظام" عن الحوار والتسوية والحلول السلمية. وما قاله في دمشق يقوله في بيروت، كما حاول تقديم كلام جامع إلى السوريين، رافضا القتل الذي يعلم الجميع ان يدي النظام السوري مغمستان بدمائه.
ولأنه يأتي من معقل الكنيسة المارونية يعرف، بسبب تصادمها مع النظام السوري طيلة عقود، كيف يفكر هذا النظام وكيف يواجه وكيف ينتهك القيم الانسانية.
البطريرك الراعي يزور سورية ووجهته الكنيسة وابناؤها ودعوة إلى لم الشمل ووقف النزف في سورية، يطلب لـ"السوريين" ولا يستعطي نفوذا وسلطة ولا يستقوي بالنظام المتداعي على لبناني آخر… زيارة الراعي الى سورية هي غير تلك التي قام بها العماد ميشال عون قبل سنوات الى "النظام" السوري دون غيره.

السابق
الأسد ونصر الله ونتنياهو: لعبة خطرة
التالي
ردود على زيارة الراعي لتنصيب اليازجي بطريرك انطاكيا في دمشق