أم الغرائب!

ما يحصل في دمشق وضواحيها منذ ثلاثة أيام، يبدو كأنه الردّ العملي الأسدي المباشر على "محاولة" معاذ الخطيب كسر الحلقة المقفلة وتخفيف الأثمان المطلوبة للتغيير في سوريا؟
لكن المحاولة في أساسها مثيرة فعلاً للاستغراب. فهي ليست اجتهاداً شخصياً إنّما نتيجة "همس" غربي في أذن الخطيب أولاً وقبل أي شيء آخر! ولا يحتاج تبيان ذلك إلى فكّ طلاسم مغلقة. ولا إلى استحضار آليات البحث عن الخبريّات الخاصة. ولا ضرب الهواتف لمَن يعلمون ماذا يحصل، ومطّلعون أكثر من غيرهم على طبيعة وتفاصيل الاتصالات العلنية والسرّية الجارية بين المعنيين والمهتمين بالشأن السوري.
.. الخطيب، أو غيره أيّاً يكن، من أهل الثورة السورية، ما كان ليفكر لحظة واحدة في أنّ أمر التسوية لا يزال ممكناً. أو أنّ احتمال قبول الأسد اليوم ما كان يرفضه بالأمس وعلى مدى سنتين، هو احتمال وارد وجدّي.. لا يخطر ذلك في بال الغاشي، فكيف الحال عند العاقل الذي خَبِرَ واختبر وعَرِف ويعرف الطبائع الأسدية في التفكير والأداء؟
ما يثير الاستغراب أيضاً، هو أنّ الغربيين عموماً يعرفون تماماً، مثل معاذ الخطيب وأكثر، الوقائع السورية كما هي تماماً بتاتاً. ويعرفون (ويقولون) إنّ السلطة الأسدية وصلت إلى نقطة اللاعودة، وأنّ التسوية معها صارت وهماً خالصاً! وفي ذلك كل الحقيقة وليس جزءاً منها. فالحرب الدائرة وتطوّراتها جعلت هذه الحرب عصيّة على النتائج الملتبسة. ومن النوع الذي لا يحتمل أنصاف النهايات ولا أنصاف الألوان. هذه حرب "تليق" بوصفها.. صافية وكسرية! وتشبه في مكان تاريخي ما، حرب إسبانيا عشيّة المواجهة الدولية الثانية الكبرى في القرن العشرين: الانتصار فيها حاسم، والانكسار فيها أكثر حسماً.. ومع ذلك، رُميت طابة الخطيب في حقل شوكي، وعند أوّل ارتطام بينها وبين الشوك نفّست وتمزّقت.
والأكثر غرابة بعد ذلك، هو أنّ المحاولة المذكورة جاءت بعد أن تأكّد فشل مهمّة المبعوث الدولي العربي الأخضر الابراهيمي. وبعد أن تبيّن بالملموس، أنّ السماء السابعة أقرب إلى الناس من احتمال "إصابة" الأسد وحاشيته بأي ذرة من المنطق الدافع إلى حالة من الأنسنة أو الوطنية أو التاريخية..
والغريب العجيب، هو أنّ المحاولة التي أُريد لها أن تكسر الأسد مواربة، أدّت عملياً إلى كسر شيء في وحدة المعارضة! وكأنّ هناك، في الغرب قبل الشرق، مَن يتبرّم وينزعج من تمكّن هذه المعارضة من حمل جبال المواجهة وتأكيد قدرتها على تقديم بديل مدني حداثي متقدّم متكامل و"مطمئِن للجميع"، عن السلطة ومشاريعها.
لكن برغم كل تلك الغرائب والعجائب المعطوفة أصلاً على النكوص الأساسي الفعلي عن مَدّ الثورة بما تحتاجه وتريده، فإنّ السلطة الأسدية ميدانياً، لم تستطع "حسم" السيطرة على داريا مثلاً! برغم مرور نحو شهرين على بدئها، معركة، قيل لنا إنها ستكون بداية "الانتصار"!
في خلاصة البيان، إنّ الأسد يردّ في دمشق وضواحيها وريفها على مبادرة الخطيب الهادفة في ختامها إلى تنحّيه. لكنه لا يفعل في المحصلة سوى شيئين كبيرين: الأوّل تأكيد عجزه عن البقاء والاستمرار، والانتصار! والثاني تأكيد وحدة المعارضة في حرب الحياة والموت التي تخوضها ضدّه. والمفارقة أم الغرائب: داعمو المعارضة يشتتونها. وعدوّها الأوّل يوحّدها!
  

السابق
لبنان في عين العاصفة وحزب الله أول الضحايا
التالي
مش رمَانة، قلوب مليانة