استيطان إسرائيلي في عقول عربية

في استعراض سريع لمجريات الأمور على الساحة العربية منذ وعد «بلفور» المشؤوم حتى اليوم، نلمس تصاعداً ممنهجاً لما يدّعيه الغرب والصهيونية من «حقائق» يتمّ إبرازها بشكل أو بآخر في مؤتمرات وحوارات وعلاقات تجارية وصفقات تسليح واتفاقات ومساعدات مشروطة مع الدول التي تسير في ركاب أميركا وأوروبا في وجهيهما المستعرب والمتصهين، تصب كلها في خدمة دولة العدوان «الإسرائيلي» وتحاول منحها براءة ذمة والاعتراف بها أنها من صلب هذا العالم العربي وأنها، أي «إسرائيل»، حقيقة لا بد من الاعتراف بها محوراً له وزنه في مختلف الأمور وعلى «القوافل العربية» إسلاس القيادة لها وترك اللجام في يدها تشده حين تريد وترخي به ساعة تشاء، وفقاً للخطة الصهيونية في السيطرة على العالم.
كان لـ«ثقافة» الاستسلام والتخدير الفكري المتواصل على مدى ستة عقود ونيّف من الزمن الفعل المؤثر الذي غيَّر وبدّل في ما بنته الأجيال السابقة من ثوابت في ذاكرة الشعوب العربية، أن لا عدو إلا العدو «الإسرائيلي» الذي احتل الأرض وشرّد وقتل ودمّر الحجر والبشر وما زال يسير على نهجه الإجرامي منذ مؤتمر «بال» الصهيوني، حتى تصبح الكلمة الأولى والأخيرة له في التحكّم في مصائر الشعوب في أوروبا وأميركا والشرقين الأدنى والأبعد. وكان من نتيجة هذا التخدير الممنهج الذي زرع في العقول «العربية» أن تبوأ السلطة في أكثر من دولة في العالم العربي حكّام تأثروا كثيراً بما تشرّبوه من سموم صهيونية وأفكار غربية مشوّهة للحقائق والتاريخ، وباتوا أسرى الإبهار وما يسمى بالتطور التكنولوجي في العالم الغرب، وبما تبثه المحطات الإعلامية الصهيونية بشكل متواصل، حتى أضاعوا أصالتهم وجزءاً كبيراً ومهماً من ثقافتهم التي درجوا عليها وأحلّوا مكانها مغالطات ونظريات فاشلة أوصلتهم إلى الهاوية والنهايات «الربيعية» لهم ولأنظمتهم وأتباعهم. وانعكست كلها تخبطاً عشوائياً حتى بين «المثقفين» وأصحاب البدع الذين استنسخوا من بعض المفاهيم الإيمانية ما يدعم عودتهم إلى جاهلية العقول وعادات الغزو والسبي والتكفير الذي رأيناه في أكثر من حراك صبغ بالدم حروفاً كانت لزمن مضى نوراً وهداية للعالمين.
أحلَّ أصحاب البدع والتكفير في عقولهم أفكاراً ظلامية ومارسوا طقوساً جاهلية في أساليب حياتهم اليومية، حتى تكاثر حولهم الجهلة في أسرار الدين والدنيا، وباتت شريعة الغاب هي المتحكمة في أداتهم وأساليب عيشهم مع الآخرين، وإلّا ما معنى أن يستعاض عن مقولة «العفو عند المقدرة» التي تغنّى بها العرب زمناً طويلاً وطبّقوا قواعدها في أكثر من حالة وشأن بالقتل المتعمّد واستعمال أدوات لا تصلح إلا للتعامل مع الوحوش والحيوانات الضارية، وإطلاق صرخات «الابتهاج بالانتصار» كما الهنود الحمر الذين يتجمّعون حول حلّة كبيرة أضرمت تحتها النيران وفي داخلها آدميّ يجهّزونه لوليمة آكلة اللحوم البشرية.
أكثر ما يؤلم في وصف حالة التردي التي تعيشها غالبية الأعراب أن ينبري مدّعو الثقافة والبحث الاجتماعي والسياسي، وبعض الكتبة المأجورين ومتزعمي ما يسمى بالثورة في بلاد الشام ورؤساء مجالسها التركية والقطرية ومحور الانهزام، إلى رفض الحوار الذي أطلقته القيادة السورية لوقف الدم المراق بلا مبرر بآلة القتل السلفي والتكفيري، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أبرياء لا حول لهم في مجريات الحرب العبثية الدائرة والإبقاء على هيكلية الدولة والحفاظ على مقدراتها وبنيتها الإدارية من السقوط في أيدي أشرار العالم الوافدين من كل حدب وصوب، الذين فرحوا بالتدخل «الإسرائيلي» المدان في التعدي على دولة ذات سيادة، دولة ما زالت ترفض الانصياع للإملاءات الغربية أو الخضوع للإغراءات المعروضة عليها للتخلّي عن المقاومة أو للدخول في حوار مع دولة الاغتصاب الصهيوني، مقدمة للقبول بها وبتشريع احتلالها لفلسطين واغتصابها للأراضي العربية وتهويدها.
هذا الاستيطان «الإسرائيليّ» في العقول «العربية» أنتج جمهرة من «قادة الفكر» وأصحاب الترّهات التي تفلسف الانهزام والاستسلام، أشدّ وطأة وقساوة من الاستيطان في الأرض واحتلال المدن والبيوت والتسلّط على موارد الشعوب الآمنة، فاحتلال الأرض واغتصابها يشكل تحدّياً لكلّ الأحرار والمقاومين المؤمنين بتحرير أوطانهم واستقلالها ليكونوا على استعداد دائم لتطهيرها من رجس الاحتلال والمتعاونين معه، أمّا احتلال العقول والاستيطان فيها كما هو جارٍ اليوم في أكثر من أمارة ومملكة وواحة، فيُنتج من دون شك عند أول تحدٍ قومي ووطني لها قوافل من المتواطئين والمستسلمين والعملاء والخونة، لا يرون في الاعتداء على سيادة دولهم وشعوبهم إلّا إشكالاً ظرفياً وأمراً عادياً استساغوا حصوله وقبلوا به عندما تنازلوا عن حقوق أممهم في الصراع واستطابوا العيش الذليل في ظل عدّو ما كان لينتصر عليهم وعلى امثالهم إلّا بعدما أقام قواعده في عقولهم وأفكارهم واستوطن في ذاكرتهم التي لا ترى في الانهزام إلّا قطعان النعاج تسرح في سهول ووديان ذواتهم وغبائهم، ويتنكرون للحقائق الميدانية الحاصلة التي تؤكد «أن القوة هي القول الفصل في إحقاق القومي»، وإن الدولة والجيش والشعب في بلاد الشام لن يتنازلوا عن هذه الثوابت الوطنية والقومية ولو أنتجت «الثقافة الإسرائيلية» كل يوم «نبيلاً» أو حمداً أو حتى «معاذاً» أو معّازاً يشترط واهماً للموافقة على الحوار السوري ـ السوري أن يتخلّى الأسد عن حماية عرين الأمة إفساحاً لقوافل «المعَّازين» بالوصول إلى أضغاث أحلامهم.

السابق
5 إرتدادات متوقعة على حزب الله ولبنان
التالي
شربل: الدول الأجنبية حريصة على عدم توتير الأجواء في لبنان