النأي بالنفس وهيبة الدولة

أن تنأى الدولة بنفسها عما يحدث لدى الشقيق الأقرب إليها جغرافيّاً وتاريخيّاً وعائليّاً، هو بحدّ ذاته أمر مُدان بكل المفاهيم، ولو كان يندرج ظاهريّاً تحت عنوان الاستقرار الأمني في لبنان، ذلك أن هذا النأي يصبّ في المواقف الرمادية التي لا تخدم القضايا المُحقّة. أما أن يترافق النأي بالنفس مع خروقات تتمثل في الانخراط عسكرياً ضد الدولة السورية، فهذا أمر أكثر إدانة، ذلك أن النأي بالنفس يُصبح ستاراً لأعمال عدوانية ضد سورية. إلا أن الأشدّ خطورة في المعادلة، أن يتفيّأ النأي بالنفس الأمن بالتراضي، بحجّة أن مذهباً بأكمله مستهدف إذا ما اقترف مجرمون وإرهابيون أعمالاً مخلّة بالأمن القومي، كإشعال الفتنة في طرابلس والاعتداء المسلّح على الجيش الوطني الباسل في عرسال!

إن ما يحدوني إلى هذا الكلام الموقف المتردّد للدولة اللبنانية في موضوع تمكين الجيش اللبناني من ردّ كل اعتداء عليه بالوسائل المتاحة وبالاقتصاص من الإرهابيين، الذين يقتلون ويجرحون ضبّاطه وأفراده. سقط للجيش شهيدان عزيزان وعابران للطوائف والمذاهب، بدليل توحُّدهما في الدم والتضحية بالذات وفاءً للقسم، ولا يزال أهل الحكم مترددين في اتخاذ القرار الأوحد: إصدار الأوامر الصريحة للجيش اللبناني بسوْق القتلة الإرهابيين والمجرمين إلى العدالة. إن بيانات الاستنكار والاستهجان ورفع الغطاء عن المخلّين بالأمن وإعطاء الغطاء السياسي في المقابل للجيش اللبناني، وذرف دموع التماسيح على الأبطال الشهداء، ومناجاة الأقدار بكلام خشبي، إنما هي مواقف أصبحت ممجوجة ومفضوحة ومرفوضة بكل المعايير. إن المطلوب واحد، وهو التحرك الميداني الفوري للقبض على القتلة المجرمين والمحرّضين، إلى أي جنسية انتموا، وسوقهم إلى العدالة. تحضرني في هذه المناسبة الأليمة أحداث الضنية التي اندلعت نهاية عام 2000، حيث كان الناس يحتفلون بحلول القرن الواحد والعشرين، وجاءني خبر تعرّض دورية للجيش وبعض المناطق الشمالية لهجوم من مسلحين ما لبثوا أن احتموا في جرود الضنيّة، بعد استشهاد عسكريين ومدنيين أبرياء، فأعطيت الأمر المباشر إلى قيادة الجيش بالاستعلام والهجوم المضاد وضرب أوكار هؤلاء حيثُ هم، مهما كلّف الثمن، وبأسرع ما يمكن، قبل أن يفيقَ اللبنانيون، وهم يحتفلون بعيد رأس السّنة الجديدة، على تراجيديا الغدر بالعسكريين والمدنيين الأبرياء على يد إرهابيين لا يعرفون إلا لغة القتل والدمار، وقد تمّ سحقهم وجلب قسم كبير منهم إلى العدالة، حتى استفادوا من قانون عفو شملهم، بالميزان الطائفي والمذهبي البغيض ذاته، مع قائد ميليشيا مسيحية أُدين بتهم اغتيالات شنيعة. كما تحضرني أيضاً أحداث البارد، التي أثبت فيها الجيش اللبناني، على قلّة إمكانياته، أنه قادر على اجتثاث الإرهاب والقضاء على أوكاره، وقد قدّم تضحيات غالية في سبيل ذلك. الجيش اللبناني لن يتغيّر وعقيدته القتالية هي ذاتها، ويبقى أن لا تتخاذل السلطة السياسية في إعطاء الأوامر الحازمة للجيش اللبناني بأن يتصرّف حفاظاً على الاستقرار وضرباً للإرهاب واستعادة لهيبة بدت كأنها مفقودة في هذه الأزمنة الرديئة.

إن الجيش اللبناني الباسل، عضد المقاومة في حروب العدوان التي يشنّها الكيان الغاصب على لبنان، قد يصبح في حلّ من أوامركم دفاعاً عن نفسه إذا ما مكثتم رابضين على متاريسكم الطائفية والمذهبية وغير منصرفين إلى مصلحة الوطن العليا التي تعلو كل اعتبار. إن حساباتكم السياسية الضّيقة ومراهناتكم وصغائر أموركم لم تعد تليقُ بكم وبشعبكم الأبيّ ومقاومتكم الرائدة وجيشكم الوطني الباسل الذي لم يعد يتحمّل هذا النوع من الانتكاسات البشرية والمعنوية. أتدرون أن ما يحصل إنما وجهٌ من أوجه نقل الفتنة من سورية إلى لبنان؟ أتدرون أن سورية، الدولة القائمة بمقوّماتها كافة، بدءاً من شعبها الأبيّ وقيادتها القوية والحكيمة وجيشها المقدام والمتماسك وإداراتها، لا سيما الدبلوماسيّة منها، هي في طور القضاء على الإرهابيين الآتين من كل حدب وصوب للقتال في سورية، وبعثرة روافد قوتها وممانعتها وصمودها؟ أتدرون أن انتظاركم على الجبل لاختيار الحليف لن يفيدكم بعد اليوم، ذلك أنكم تعرّضتم للأوبئة بفعل اشتداد الرياح من صوبكم، ولم يعد في مقدوركم أن تلحقوا بالمنتصر علّه يلتفت إليكم وينقذكم من خيبتكم؟ راهنوا على الأقل على منعة وطنكم واخرجوا من أعناق زجاجاتكم المذهبية وتنشّقوا هواء الكرامة الوطنية ولا تتركوا الإرهاب يتمكّن منكم، ذلك أنكم سوف تخسرون حينئذ المذهب والطائفة والدولة معاً ولن يفيدكم حينها صرير الأسنان في وطن الأرز الخالد لبنان.

السابق
اختتام التحقيق في ملف سماحة وإحالته على النيابة العسكرية
التالي
الجيش هو مناعة الوطن